رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المترجمون خونة»: مثل إيطالى شهير يُقصد به أنّ المترجم عاجز عن البقاء مخلصًا للنص الأصلى، إما عن سهو أو سوء قصد، وفى الحالين هى خيانة غير مأمونة العواقب،

المترجمون .. خيول بريد التنوير


المترجمون خونة»: مثل إيطالى شهير يُقصد به أنّ المترجم عاجز عن البقاء مخلصًا للنص الأصلى، إما عن سهو أو سوء قصد، وفى الحالين هى خيانة غير مأمونة العواقب، خاصة فى المحافل والاتفاقات والمعاهدات الدولية. ولعل أصدق مثال على ذلك ما حدث فى الماضى القريب أثناء ترجمة نص القرار 242 الذى أصدره مجلس الأمن الدولى حول الصراع العربى الإسرائيلى إبان حرب يونيه 1967 بين مصر وإسرائيل، والذى نستشف منه أن الترجمة يمكن أن تحدد مصائر الأمم والشعوب، فلقد وقع العرب ضحية خطأ ترجمة لنص القرار بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وكان الخطأ ـ رغم ضآلته شكلاً ـ يدور حول «أل» التعريف، فالنص الفرنسى يقول بوجوب «انسحاب إسرائيل من الأراضى العربية المحتلة، بينما فى النص الإنجليزى: انسحاب إسرائيل من أراضٍ عربية محتلة! وبالطبع تمسكت إسرائيل بالنص الإنجليزى واستبعاد «أل» التعريف، وتبريرها أن الانسحاب الذى قضى به القرار لا يشمل جميع الأراضى العربية المحتلة «سيناء/الجولان/ الضفة الغربية وغزة» بل جزءًا من هذه الأراضى.

وتكمن الصعوبة فى الترجمة عن كون اللغات المتداولة وغير المتداولة، ليست كجداول اللوغاريتمات فى علوم الرياضيات، تقابل بحقائق محسوبة سلفًا بواسطة العلماء المتخصصين، فكما أوضحت قد تؤدى إلى كوارث فى العلاقات الدولية، وأبلغ مثال على ماحدث من خطأ فى ترجمة الفعل فى اللغة اليابانية. « موكى ساتسو» التى تُرجمت أو فُسّرت خطأ باللغة الإنجليزية أثناء الحرب العالمية الثانية، والتى جعلت أمريكا تُلقى قنابلها الذرية على هيروشيما وناجازاكى، لأن الأمريكان طالبوا اليابان وقتئذٍ بالاستسلام الفوري، دون قيد أو شرط،فكان رد رئيس الوزراء اليابانى بالكلمة «موكى ساتسو» التى فُسّرت بمعنيين: الأول هو «لا تعليقَ»، والثانى هو « القتل بالصمت»، فسارعت أمريكا إلى الأخذ بالمعنى الثانى لفهمها، وكأن رئيس وزراء اليابان قد رفض الإنذار، غير أن وكالات الأنباء فيما بعد، صرحت بأنه كان يعنى أن حكومة اليابان كان مقصدها عدم اتخاذ أى قرار أو إجراء أو عدم التعليق بانتظار توضيح الأمر كجواب لجملة «دون قيد أو شرط»، ودفعت البشرية الثمن غاليًا نتيجة هذا الخطأ الفادح فى ترجمة كلمة من اليابانية إلى الإنجليزية.

ونحمد الله على أننا لا نجلس للترجمة على منصات التحكيم والفصل فى نزاعات الدول على الحدود أو المياه أو المخترعات الحربية، ولكن مايعنينا فى المقام الأول، هو الترجمة العلمية والأدبية، التى تذهب فى قدمها إلى نشأة وتطور الفكر الإنسانى، بل كانت هى أكثر مجالات الترجمة شيوعًا وانتشاراً خلال عصور ازدهار الحضارة المصرية والعربية، وكان جُل الاهتمام بترجمة أمهات الكتب للعلماء والحكماء غير العرب، وثراء الحركة بتعريب المصطلحات ووضع الأسس اللغوية للتعامل مع النص المترجم. ولعلى أجد أن التعبير الإيطالى المتعارف عليه بأن «المترجمين خونة»، ماهو إلا وصف قاسٍ وظالم للمترجم ولعملية الترجمة مهما كان مقدار صحتها، فالترجمة عملية نقل لدلالات ومفهوم اللفظ المُترجم تحت كل الظروف، فهناك نظرية لـ «جورج ستاينر» تسمى نظرية ثالوث الترجمة : الحرفيَّة «الكلمة بالكلمة» والحرة «الدلالة بالدلالة» والترجمة الأمينة، فالمترجم فى أغلب الأحيان يعتمد على ذائقته اللغوية فى حالة عدم إيجاد مرادف دقيق للكلمة المراد ترجمتها فى اللغة الأخرى. الأمر الذى يقتضى أن يكون المترجم على معرفة تامة بجملة محددات مهمة وقاطعة تتمثل فى: المعرفة بموضوع النص، والإتقان للغتين المترجم عنها وإليها، والفهم الكامل لرسالة وهدف المؤلف، والقدرة على نقل المعنى بكل وضوح، والمعرفة الواسعة بمجال العلم الذى يقوم بالترجمة فيه وعنه، والإلمام الكافى بالمصطلحات المستخدمة فى مجال العلم أو الشعر أو الرواية أو أياً كان ما يقوم بالترجمة فيه. فانخفاض مستوى المعرفة اللغوية لدى المترجم العلمى يعيب الترجمة ويضر بالمحتوى اللغوى وربما يتسبب فى كثير من الأحيان فى أخطاء علمية ناجمة عن عدم إدراك لغوى سليم لمعانى الألفاظ ودلالاتها وقواعد التركيب وأساليب البناء. ولأهمية الترجمة، اهتمت الجامعات المصرية بإنشاء مراكز مستقلة لها من خلال هيئة تدريس متكاملة ومتخصصة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فمركز اللغات والترجمة بأكاديمية الفنون، نجده يشتمل على عدة أقسام للغات هى «اللغة العربية والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، والروسية، واليابانية»، تعمل على تعليم طلبة المعاهد بالأكاديمية لهذه اللغات، فضلاً عن القيام بأعمال الترجمة لجميع الإصدرات بها، و تعريب المصطلحات المتعلقة بالفنون و إعداد الدارسين المرشحين فى بعثات و منح دراسية بالخارج من الأكاديمية . إذن .. فالترجمة فى كل زمانٍ ومكان،هى فعل ثقافى لغوى حضاري، وهى الرابط بين الحضارات، ونافذة فكرية تضمن لهويتنا القومية المزيد من التواصل مع الشعوب،ومن هذا المنطلق يتضح لنا جلياً منطقية وضرورة إنشاء هذه المراكز المتخصصة وتنمية وتطوير القائم منها بالفعل من صروح والإبقاء عليها بوصفها مراكز إشعاع واستنارة بغية الإسهام فى إثراء الحركة الثقافية والمشاركة فى النهوض بها، مصداقاً لما تنطوى عليه مقولة الشاعر الروسى «بوشكين» بأن: «المترجمين هم خيول بريد التنوير» لكونهم ينقلون المعرفة من بلد إلى آخر ومن لغة إلى أخرى.

 أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون