رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طوب علينا يارب


منذ مدة رأيت فى ميدان رمسيس عربة فول كتب صاحبها على جنبها باللون الأخضر «ماخطرش على بالك يوم تفطر عندى؟» على وزن كلمات أم كلثوم» ماخطرش على بالك يوم تسأل عنى؟». ومنذ أيام قلائل قرأت على مركبة محملة بالزلط عبارة «طوب علينا يارب»! والعبارة الأخيرة عبقرية لأنها تنطوى على جملة أخرى فى باطنها يستدعيها الجرس المشترك ويستمر بها المعنى وهى «توب علينا يارب». والحق أنى كلما شاهدت عبارات من هذا النوع على خلفيات السيارات أو جدران البيوت أتذكر على الفور العالم العظيم د. سيد عويس الذى مرت فى 18 فبراير الحالى ذكرى ميلاده المئوية.

فقد كان عويس أول من انتبه إلى ظاهرة ما أسماه «الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى المعاصر» فى كتابه الفذ «هتاف الصامتين» حين لاحظ أن مثل تلك العبارات تشكل فى مجملها منظومة ثقافة شعبية ونافذة يمر منها هتاف الجموع التى لا منبر لها ولا صحيفة. وقد ظل د. سيد عويس ثلاث سنوات كاملة من 1967 حتى 1970 يسعى- فى إحدى عشرة محافظة- خلف كل سيارة تاكسى أو ملاكى أو نقل عام أو لورى أو عربة كارو أو عربة يد لبيع المأكولات ليسجل بدأب تلك العبارات والرسوم والأشياء التى تعلق فى المركبات، مثل حدوة حصان، أو فردة حذاء، أو قرن شطة إلى آخره. واستخلص من بحثه أن كل أولئك وسيلة لدى المصريين لمواجهة المجهول وتفادى الشر وطلب الرزق والسلامة. وقسم د. عويس مادة البحث حسب نوع المركبات أولاً «ملاكي- خاصة- عامة» ثم حسب مضمون العبارات: عبارات وطنية «مطلع أغنيات تمجد الحرية» وأخرى دينية «آيات مقدسة»، ثم شعبية «ابتهال- تحذير- أقوال مأثورة- نصائح». وقد نشر الكتاب عام 1973 وأعادت هيئة الكتاب طباعته عام 2013.

ويقول د. سيد فى مقدمته إنه «انتبه بعد نكسة 1967 لتلك الظاهرة، وأخذ على مدى عامين ونصف العام يجمع العبارات التى يكتبها أصحاب المركبات»، مقدراً أن بحثه يصب فى دراسة الحالة الاجتماعية الثقافية، وأن ذلك اللون من الكتابة هو فى واقع الأمر جهاز إعلام شعبى متحرك أو هو بعبارة أخرى «هتاف الصامتين». ويعد د. عويس عميد علماء الاجتماع فى مصر، وله كتب أخرى غاية فى الأهمية منها كتابه الجميل «رسائل إلى ضريح الإمام الشافعى» الصادر عام 1965، وأول كتبه المنشورة، فإذا قرأته قد تبكى وأنت تطالع بؤس المصريين الذين لا يجدون حلاً لمشكلاتهم العويصة والبسيطة إلا بمراسلة العالم الآخر.

من المؤسف أن أحداً لم يواصل أبحاث هذا العالم العظيم ولا واصل غرس الشجر على ذلك الدرب من البحث فى الثقافة الشعبية. ويدفعنى ذلك للتساؤل: ترى هل تصلح الكتابات على جدران فيس بوك موضوعاً للدراسة؟ ليس بالحتم لكونها تعبيراً عن ثقافة شعبية.. لكن كظاهرة اجتماعية- ثقافية؟. أتذكر هذا العالم العظيم بالحب والتقدير كلما استوقفتنى عبارة ما فى الشوارع كتلك التى قرأتها على عربة تبيع الكبدة وقد كتب صاحبها على عارضتها «كبداكي» على وزن كنتاكي! وآخر ما قرأته كان عبارة على الزجاج الخلفى لميكروباص: «كنت فاكرك ياصاحبى محل ثقة، طلعت ياصاحبى محل جزم»!

■ كاتب وأديب