رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأم.. فى سينمانا


كلما اقترب الاحتفال السنوى بعيد الأم.. مرت بذاكرتى أفكار عدة لكيفية الاحتفاء بهذه المناسبة بما يليق بعظمتها وجلالها، وأجدنى أجنح بخيالاتى لأستحضر ماكتبه الروائى «مكسيم جوركى» فى روايته التى تحمل الاسم نفسه: الأم. التى تدور حول عظمة اكتشاف أن ابنها قد كرس نفسه لقضية جوهرية تصب فى مصلحة الإنسان والعامل الروسى، وسبل تدعيم الوشائج الاجتماعية ، وبرغم قلقها على مصير ابنها إلا أنها تفخر به وهى تشاهده يرأس الاجتماعات ويتحدث بأمور تغمض عليها،وقد كانت بمثابة الأم لجميع أصدقائه الذين يجتمعون فى بيتها...

... فحنانها يفيض عليهم جميعا، فيأخذها النقاش معهم إلى قناعات، تقرر بعدها الدخول فى هذه الجماعة بوازع عاطفة الأمومة. ولكن الابن ـ عن طريق الوشاة ـ يتم اعتقاله ويدخل السجن، لتتابع هى مسيرته التى بدأها مع زملائه الثوار وتقوم بتوزيع المنشورات مع أصدقائه، لتقدم النموذج الأمثل لعاطفة الأمومة المتأصلة فى وجدانها وقناعاتها فى سبيل الحرية لها ولولدها.

هذه كانت التداعيات عن «الأم» فى الأدب العالمى، الذى اهتم بتعظيم دورها من خلاله ، ولكنى تساءلت عن دور الأم فى سينمانا، ومدى تأثرها وتأثيرها على المجتمع المصرى والأسرة المصرية ككيان مهم فى بنيان الدولة ، وهل استطاعت الأعمال السينمائية المصرية المقدمة أن تعطى المردود المطلوب والمؤثر فى كيان المجتمع بتخليدها من خلالها؟ ولكننى اكتشف أن الحديث عن صورتهايستلزم أن نعد له مجلدات ومجلدات لا مقالا واحدا!

فالأم فى السينما المصرية ظهرت بأشكال متعددة، فالأمهات الشهيرات فيها لم يقمن بأدوار الشرـ برغم وجود تلك النماذج فى المجتمع ـ إعلاء لقيمتها وكينونتها فى سبل التربية للأبناء، كى تعطى المثال والقدوة فى معنى الأمومة الحقيقية ،وليست الخارجة عن القاعدة العامة لمعنى الأمومة الإنسانى والحضارى، مثل الفنانات القديرات: أمينة رزق، وفردوس محمد، وزينب صدقى ومارى منيب، كما أننا لابد ألا ننسى الدور العظيم الذى قامت به الفنانة القديرة تحية كاريوكا فى فيلم: «أم العروسة»، المقتبس عن رائعة الروائى عبد الحميد جودة السحار، مع سيناريووحوار القدير عبد الحى أديب، وإخراج عاطف سالم، ودور الفنانة القديرة كريمة مختار فى فيلم «الحفيد»، فهذه الأدوار الرائعة تم اعتبارها من كلاسيكيات السينما المصرية.

وصحيح أن هناك ممثلات قمن بأدوار الأم الشريرة مثل الفنانات زوزونبيل ،ونجمة إبراهيم، وأخريات قمن بدور الأم قوية الشخصية، أوتأرجحت أدوارهن بين الطيبة والشر مثل الفنانات: ميمى شكيب، وزوزو ماضى، وعلوية جميل وغيرهن، ولكنى بصدد استعراض الأدوار العظيمة لـ «الأم» ـ كما يجب أن تعرضه سينمانا ـ وهى الأدوار المؤثرة والفاعلة فى وجدان أبناء الأجيالالجديدة من الشباب، وتعطى الدروس المستفادة عن دور الأمومة وروعتها فى أجلى وأرق معانيها النابعة من المشاعر الحقيقية المرهفة تجاه الأبناء.

والتاريخ يسوق لنا الكثير من العظات والعبر عن معنى الأمومة وعظمتها،وهى القصة التى عرفت تاريخيًا باسم «الأم الشجاعة» ، وهى قصة مختلفة تمامًا عن قصة «الأم شجاعة» للكاتب الشهير «صمويل بريخت»، والقصة التاريخية تقول إن امرأتين تنازعتا على بنوة طفل، وكانت كل منهما تدعى أنه ابنها، وانتهى بهما النزاع إلى قاضى المدينة الذى احتكما إليه للفصل فىنزاعهما، فتفتق ذهنه عن حيلة بارعة، ليصل بها إلى معرفة الأم الشرعية الحقيقية ، فما كان منه إلا النطق بالحكم الذى يقضى باقتسام الطفل بينهما بحد السيف، فصرخت إحداهما من فورها فى وجه القاضى ملتاعة ورافضة لهذا الحكم القاسى، ولتتنازل للأخرى عنه معترفة بكذبها فى هذا الادعاء، الأمر الذى حدا به إلى معرفة أن التى آثرت التنازل عن وليدها مقابل الإبقاء على حياته هى الحقيقية، وهنا حكم لها القاضى بعودة الابن إليها واكتشاف كذب المدعية التى لم تأخذها الشفقة ولا الرحمة على الصغير موضع النزاع.

وطبيعى أن ما يظل عالقًا بأذهان الجماهير المصرية هن الفنانات اللاتى قمن بشخصية الأم المليئة بالحنان والعطف والمشاعر المرهفة والتضحية من أجل الأبناء، ويجب أن تبتعد سينمانا عن الأم غير المثالية التى ظهرت على الشاشة فى الآونة الأخيرة مجاراة لبعض التغييرات الاجتماعية التى حدثت فى داخل المجتمع المصرى، وقام بعض المخرجين بتصوير الأم التى تقوم بتصرفات وأفعال غير أخلاقية، ولا تنتمى للجوهر الحقيقى للشعب المصرى ، وأسوق على سبيل المثال لاالحصر: شخصية «فرنسا»، ذلك الدور الذى لعبته الفنانة «عبلة كامل» فى أفلام مثل «اللمبى» و«خالتى فرنسا»، وهنا نرى أن الصورة الحقيقية والمثالية للأم المصرية العظيمة، قد شوهت، ولكن يقينا ستبقى دائمًا خالدة تلك الأدوار العظيمة التى قام بأدائها الفنانات العظيمات اللائى سبق ذكرهن.

ولعل القائمين على صناعة السينما فى مصر يتخذون منحى جديدًا فى التركيز على تصوير المشاعر الجياشة كنموذج لأم شهيد من شهداء الواجب الوطنى، وهى شخصية الأم التى تطلق الزغاريد خلف نعش ابنها الذى استشهد فى سبيل قضية من قضايا الوطن المحتدمة فى أيامنا هذه، لنشهد لهم بحق أنهم وضعوا المثال والقدوة للأجيال الجديدة عن معنى الأمومة وجلالها.