رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مانفيستو فى ظلال القرآن لسيد قطب «2-3»


ذكرنا فى المقال الأول أن أول كتاب لسيد قطب حمل عنوان «مهمة الشاعر فى الحياة».. وقد قال عنه النقاد والأدباء: هذا شاعر يسير فى طريق الشعر ولن يحيد عنه إلى غيره.. ثم كتب كتابه الثانى الذى حمل عنوان: «طفل من القرية» وقد صب جام غضبه فى هذا الكتاب على التعليم الدينى «الكتاب» وأظهر حفاوته بالتعليم المدنى. وقد ظهر من هذا الكتاب أن قرية «موشة» إحدى قرى محافظة أسيوط التى كان يسكن فيها قطب أثرت فى تكوين شخصيته والتى أخرجت لنا فيما بعد كتابه «فى ظلال القرآن».

وفى هذا المقال نلقى الضوء على أنه فى بداية الخمسينيات طلبت مجلة «المسلمون» مقالاً شهريًا من سيد قطب فرأي قطب الفرصة سانحة له ليكتب فى تفسير سور القرآن الكريم، وقد اختار سيد قطب عنوان (فى ظلال القرآن) ونشر الحلقة الأولى فى عدد فبراير من عام 1952م، ثم نشر عقب ذلك سبع حلقات متتاليات بحسب تسلسل المصحف وصل فيها لقوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) [ البقرة : 103 ] .

بدا بعد ذلك للكاتب الإسلامى الجديد سيد قطب أن يكتب تفسير القرآن فى كتاب، وليس فى مقالات، فقد شجعته التجربة وشحنت نفسيته شحنا فكان من المحال أن يتراجع وهو الصلب العنيد ... من المحال أن يتراجع حتى ولو لم يكن مؤهلا لهذا العمل الجليل من الناحية العلمية ... فقطب لم تكن له مناهله الإسلامية ولم يتلق العلوم الإسلامية فى الأزهر الشريف أو فى المعاهد العلمية أو على يد كبار العلماء بل كان مخاصما للعلم الدينى وغير راغب فيه بسبب ما لقيه فى كتاب القرية وهو الأمر الذى جعله يهدى مذكراته الشخصية لطه حسين .

كان هذا هو حال سيد قطب مع العلم الدينى إلا أنه بالرغم من ذلك كان قارئا لا يشق له غبار عرفته المكتبات وأخذ علمه كله قراءة من الكتب ولذلك اكتفى بقراءاته الخاصة وجعل من هذه القراءات ومن تصوراته الأدبية والفكرية عمادا لتفسيره للقرآن الكريم .

ظهر الجزء الأول من تفسير «فى ظلال القرآن» فى أكتوبر من عام 1952م ثم أصدر على مدار عامين بعد ذلك ستة عشر جزءاً من الظلال حتى نهاية سورة طه .

وفى غضون عام 1954 تم اعتقال سيد قطب بسبب صلته التى كانت قد توثقت مع جماعة الإخوان المسلمين، والغريب أنه رغم أن لوائح السجون كانت تمنع السجين من الكتابة ولا تسمح له بامتلاك أدواتها .. فإن حكومة الثورة كانت قد أعطت حرية واسعة داخل المعتقل لسيد قطب فسمحت له باستكمال كتابة «تفسير الظلال» وقامت بإمداده بالكتب والمراجع!!. والأغرب من ذلك أن الرئيس جمال عبدالناصر أصدر قرارا بتعيين الشيخ محمد الغزالى وكان من كبار موظفى وزارة الأوقاف آنذاك لتيسير أحوال سيد قطب فيما يتعلق بالكتابة داخل السجن وإمداده بما يشاء من الكتب ومراجعة أصول ما يكتبه مع الناشر قبل أن تأخذ طريقها للنشر !!.

وكان أن أكمل سيد قطب الطبعة الأولى من تفسيره « فى ظلال القرآن « فى نهاية الخمسينيات، ونظرا لأن تفسير الظلال قد تعرض فى طبعته الأولى لعدد ضخم من المآخذ والاعتراضات الفقهية من علماء الأزهر فما كان من قطب إلا أن قام فى بداية الستينيات بإصدار طبعة منقحة صوَّب فيها وأضاف إليها ووضع أفكارا جديدة استمدها من تجربته فى السجن، ولذلك جاءت الطبعة المنقحة بمنهج يختلف قليلاً عن الأولى حيث ركز قطب فى طبعته الجديدة على المعانى والتوجيهات الحركية والدعوية والجهادية فى القرآن .

وضع قطب فى طبعته المنقحة تصورات جهادية فاصل فيها بين مجتمع الإيمان ومجتمعات الجاهلية وكان حجم الجزء من الطبعة المنقحة ضعف حجم الجزء من الطبعة الأولى ... ومن صفحات الظلال خرج للمطبعة كتاب مثير كان له أكبر الأثر فى تكوين جماعات العنف فيما بعد ألا وهو كتاب « معالم فى الطريق».

وفى الخمس السنوات الأخيرة ما بين 1961م وحتى 1965م أكمل تفسير ثلاثة عشر جزءًا من القرآن وأصدرها فى ثلاثة عشر جزءًا من الظلال، وتوقف عند بداية تفسير سورة «الحجر» وكان ينوى متابعة التفسير فى الأجزاء الباقية وفقا لأفكاره المستجدة، إلا أنه اعتقل فى صيف 1965م ثم أعدم فى صيف 1966م وبذلك توقف إكمال الظلال فى الطبعة الجديدة المنقحة.

هل كانت النهاية المأساوية لسيد قطب هى السبب فى الشهرة التى نالها تفسيره «فى ظلال القرآن» أجاب عن هذا السؤال جمهرة من العلماء الثقاة الكبار، أعطوا للرجل قيمته وأنصفوه إلا أن الحق أحق بالاتباع .. أغلب الظن أن إعدام سيد قطب كان من أهم أسباب التعاطف معه ومع تفسيره، إلا أن الظلال انتقده كثير من العلماء حيث رفضوا اعتباره تفسيرا معتبرا يعود المسلم إليه ليفهم ويعرف ويتعرف .

كانت شخصية قطب ونفسيته هى العنصر المؤثر فى تفسيره، شخصية الفنان والشاعر .. ذلك الفنان الذى تعتبر ذاتيته وإحساسه بتفرده هى الدفقة التى تدفعه للإبداع .. نلحظ ذلك من مقدمته التى كتبها لتفسيره حين قال فى مقطع منها ((وعشت - فى ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية التى تموج فى الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس ؟! ما بالهم يرتكسون فى الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوى الجليل. النداء الذى يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟)) .

سيد قطب فى مقدمته ينظر إلى الكون من مكان مرتفع .. كل الناس أسفله .. كلهم أهل جاهلية .. تصوراتهم واهتماماتهم ومحاولاتهم هى محاولات وتصورات واهتمامات الأطفال .. تبدو ذاتية قطب هنا واضحة تماما، وإحساسه بامتلاكه الحقيقة المطلقة هو الأمر الذى استحوذ على كيانه .. ليست مفاصلة هنا تلك التى يضعها بين الكفر والإيمان ولكنه يجعل الدائرة أكثر اتساعا لتكون بين أهل الجاهلية وأهل الإيمان .