رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسرائيل تكذب.. ونتنياهو يتعلل

يقول المثل العربي القديم، (رمتني بدائها وانسلت)، أي عيرتني بعيب هو فيها وذهبت، أو ألصقت بي تهمة هي صاحبتها وغادرت، أو ما يُعرف في علم النفس بـ (الإسقاط).. هكذا هي إسرائيل، وحكومتها برئاسة بنيامين نتنياهو، وثلة المتطرفين من أمثال بتسلئيل سموتريش، وإيتمار بن غفير، الذين دأبوا جميعًا، خلال الفترة الأخيرة، على اتهام مصر بما ليس في قيادتها، وهي الداعية للسلام، وصمام أمان المنطقة العربية.. وكأن هؤلاء يريدون أن يجعلوا من القاهرة (شماعة) لتعليق خيبتهم عليها، وتبرير فشلهم في تحقيق ما أعلنوه من أهداف لغزوهم قطاع غزة.. يريدون أن يظهروا أنهم حريضون على هدنة، تفضي إلى وقف تام لإطلاق النار مع حماس، لولا أن مصر تُعرقل هذه الرغبة، وتمارس الكذب والافتراء عليهم، بل وممارسة (الخيانة) لهم.. من يصدق؟!.
فمصر التي تدخلت منذ اللحظات الأولى للغزو الإسرائيلي لقطاع غزة، في محاولة للتهدئة، ووقف القصف الإسرائيلي الذي أتى على الأخضر واليابس، وحول القطاع إلى ركام من أحجار وأسمنت، دفنت تحتها الآلاف من أبناء القطاع، غير أكثر من خمسة وثلاثين ألف شهيد، قتلتهم قنابل وقذائف جيش الاحتلال، ثلثيهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى قرابة ثمانين ألف مُصاب، بعضهم وصل إلى حالة العجز الكلي.. مصر التي ناشدت العالم، الذي وقف مناصرًا للمجزرة البشرية ضد شعب أعزل، بضرورة حماية المدنيين، من كلا الطرفين، واقتطعت من أقوات شعبها ـ عن طيب خاطر ـ لتسهم بحوالي 80% من المساعدات الإنسانية، لنجدة الشعب الجائع والعطشان في سجنه الكبير داخل قطاع غزة، قبل أن يُقدم جيش الاحتلال على اجتياح رفح وأحتلال المعبر الذي كانت تدخل من خلاله المساعدات الإنسانية.. وراحت بمساعدة قطر، ومشاركة الولايات المتحدة، في قيادة مباحثات، أفضت في مرحلة سابقة عن الإفراج عن بعض المحتجزين لدى حماس وبعض السجناء في معتقلات إسرائيل، وراحت تواصل مساعيها لعقد هدنة، تُفلح في إيقاف الحرب، نجدة للشعب الفلسطيني الأعزل، ومداواة لجرحة الغائر في ضمير الإنسانية، وإنقاذًا لسمعة تل أبيب، التي تمرغت في التراب، يوم لم تُسفر غارات طائراته، ولا قذائف مدفعيته، ولا أطنان قنابله، الغبية والذكية، إلا عن قتل المدنيين، مما أهاج ضمير شعوب العالم ضدها، وربط بين وحشية نتنياهو وبين نازية هتلر، خلال الحرب العالمية.
تفتئت إسرائيل على مصر بالقول، إن المخابرات المصرية غيرت شروط اقتراح وقف إطلاق النار الذي وقعت عليه إسرائيل بالفعل في وقت سابق من هذا الشهر، مما أدى في النهاية إلى إحباط صفقة كان من الممكن أن تطلق سراح رهائن إسرائيليين وسجناء فلسطينيين، وتحدد مسارًا لإنهاء القتال مؤقتًا في غزة، ولم يكن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلنته حماس في السادس من مايو ـ على حد زعم تل أبيب ـ ما يعتقد القطريون أو الأمريكيون أنه تم تقديمه إلى حماس لمراجعة نهائية محتملة.. وأدت التغييرات التي أجرتها المخابرات المصرية، والتي لم يتم الإبلاغ عن تفاصيلها من قبل، إلى موجة من الغضب وتبادل الاتهامات بين المسئولين من الولايات المتحدة وقطر وإسرائيل، وتركت محادثات وقف إطلاق النار في طريق مسدود!.
وهنا، دعوني أستشهد بما كتبه باراك رافيد في (أكسيوس).. ولمن لا يعرف رافيد، أذكر أنه (صحفي إسرائيلي ومحلل سياسي ومحلل للسياسة الخارجية في شبكة سي إن إن.. عمل سابقًا في القناة 13 الإخبارية الإسرائيلية.. وهو نشط أيضًا في وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنجليزية، ويكتب لموقع أكسيوس حول السياسة الإسرائيلية).. حصل في نهاية إبريل الماضي على جائزة جمعية مراسلي البيت الأبيض للتميز الصحفي، لأن (تقارير باراك رافيد أظهرت مستويات عميقة وحميمة تقريبًا من المصادر في الولايات المتحدة وخارجها، أنتجت قصصا تتماشى بشكل وثيق مع الأحداث التي وقعت لاحقًا).. إذًا فهو رجل مُصدق عند إسرائيل وأمريكا.. فماذا قال رافيد عن الوثيقة المصرية للهدنة بين حماس وتل أبيب، قبل موافقة الحركة عليها، كما كتب بنفسه على موقع أكسيوس؟.
كتب باراك رافيد (تقول إدارة بايدن، إن المواقف الحالية التي قدمتها إسرائيل وحماس تسمح بإغلاق الثغرات في اتفاق الرهائن، ومفاوضات وقف إطلاق النار ووضع الاتفاق في متناول اليد، حسبما قال المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، في إفادة للصحفيين.. الذي أضاف أن إدارة بايدن تعتقد أنها تستطيع سد الفجوات المتبقية).. ويضيف باراك، أن حماس قبلت اقتراح وقف إطلاق النار الذي قدمته لها مصر وقطر.. وجاء الإعلان بعد عدة أيام من المحادثات بين مسئولي حماس والوسطاء المصريين والقطريين في القاهرة خلال نهاية الأسبوع ويوم الاثنين في الدوحة.. وكان مدير وكالة المخابرات المركزية، بيل بيرنز، في القاهرة والدوحة عندما كانت المحادثات تجري، وتحدث مع المصريين والقطريين، وفقًا لمصادر مطلعة على المحادثات).
ويفجر باراك المفاجأة، بأن (مسئولين إسرائيليين يقولون إن إدارة بايدن كانت على علم بالتغييرات خلال عملية المفاوضات، لكنها لم تطلع إسرائيل، قبل أن تعلن حماس قبولها يوم الاثنين.. ورد مسئول أمريكي كبير قائلًا: إن الدبلوماسيين الأمريكيين كانوا على اتصال مع نظرائهم الإسرائيليين.. لم تكن هناك مفاجآت).. وصل وفد إسرائيلي إلى القاهرة يوم الثلاثاء لإجراء محادثات مع الوسطاء المصريين والقطريين، حسب مسئولين إسرائيليين ـ مازال باراك يروي الوقائع ـ وقال المسئولون إن وفدًا من حماس وصل أيضًا إلى القاهرة لإجراء محادثات متابعة مع الوسطاء.. وقال كيربي إن مدير وكالة المخابرات المركزية، ويليام بيرنز، وصل من الدوحة إلى القاهرة لمتابعة المحادثات عن قرب.. ومن المتوقع أن يسافر بعد ذلك إلى إسرائيل يوم الأربعاء، حسب ما قاله مصدر مطلع على الرحلة لأكسيوس.. ومن المتوقع أن يجتمع مع نتنياهو ومسئولين إسرائيليين آخرين).. وبين السطور: قال مسئولون إسرائيليون كبار، إنه على الرغم من خيبة الأمل من السلوك الأمريكي والمصري في الأيام الأخيرة، قررت إسرائيل إرسال الوفد إلى القاهرة لفحص ما إذا كان موقف حماس نهائيًا أم أنه يشكل أساسًا للمفاوضات.. انتهى كلام باراك.
برواية من كرَّمته إدارة بايدن في البيت الأبيض، والتقط صورة مع الرئيس، لعمق تحليلاته وصدق أخباره، وهو الذي يُنبئك بها، كأنه يجلس في نفس الغرفة مع صانع الحدث الإخباري، فإن كل الأطراف، القطرية والأمريكية والمصرية والإسرائيلية كانت على علم تام، بما سيُنقل إلى حماس لتلقي الموافقة عليه.. وهي الموافقة التي لم يكن نتنياهو يتوقع أن تتم، لكن حماس ضيعت عليه الفرصة، وأعلنت موافقتها، حتى قبل الموعد المحدد لتلقي الرد.. أُسقط في يدد نتنياهو، ولم يجد سبيلًا إلا أن يرفض هو الوثيقة المصرية.. لحاجة في نفس يعقوب.. ماهي؟.
وافقت حماس على مسودة اتفاق وقف إطلاق النار، لكن نتنياهو رأي أنها (بعيد كل البعد عن تلبية مطالب إسرائيل)، وما زال يشعر أنه من الضروري إرسال وفد لمناقشة الأمر.. وقد أكدت مصادر دبلوماسية في قطر، لمراسل الـ BBC (إنه إلى حد كبير نفس الاقتراح الإسرائيلي مع اختلافات بسيطة في الكلمات وبعض التفاصيل).. وكان الوفد الأمريكي، الذي يرأسه رئيس وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز، يعتقد أنه من الممكن سد الفجوات، وحتى مساء يوم الإثنين، كان الافتراض العملي الإسرائيلي، هو أن حماس لن تقبل اقتراح وقف إطلاق النار.. لقد أصيب بنيامين نتنياهو وحكومته، مثل معظم المراقبين الأجانب، بالصدمة عندما أعلنت حماس قرارها.. وهنا نحن أمام طريقتين للنظر إلى ما يمكن اعتباره مناورة حماس.. فيمكن النظر إليها على أنها خطوة يائسة من جانب منظمة خسرت الكثير، وكادت أن تنكسر بسبب الهجوم الإسرائيلي الطويل، أو أنها كانت خطوة سياسية بارعة، أدت إلى إعادة الضغط على نتنياهو.. وهذا التفسير أكثر مصداقية، لأن خطط إسرائيل وافتراضاتها انقلبت رأسًا على عقب بسبب العرض.
نتنياهو في مأزق سياسي.. لقد اتسم أسلوبه في الحكم على مدى أكثر من ستة عشر عامًا كرئيس لوزراء إسرائيل بعادة (تأجيل الخيارات الصعبة).. لكنه الآن يتعرض لضغوط شديدة، من كل جانب، ومهما كان اللعب على كسب الوقت مغريًا، فهذه هي لحظة اتخاذ القرار.. ويأتي الضغط الأكثر شدة من اثنين من المتطرفين اليهود القوميين في حكومته، وزير المالية بتسلئيل سموتريش، وإيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي.. ويحتاج نتنياهو إلى أصواتهما لإبقاء ائتلافه في السلطة.. إنهما يريدان أن تحتل إسرائيل رفح وهددا بإسقاط الحكومة إذا لم يحدث ذلك.. بالنسبة لهما، وقف إطلاق النار يعني الاستسلام.. وفي الوقت نفسه، تظاهرت عائلات وأنصار الرهائن الإسرائيليين، وأغلقت الطرق الرئيسية لمطالبة إسرائيل بإبرام صفقة لإعادتهم إلى ديارهم.. وتحظى عائلات الرهائن بدعم في حكومة الحرب من بيني جانتس وجابي آيزنكوت، وهما من زعماء المعارضة الذين انضموا إلى الحكومة بعد هجمات السابع من أكتوبر.. وقد يغادرون الحكومة إذا بقي الرهائن في أماكنهم في غياب وقف إطلاق النار.. ويريد الأمريكيون أيضًا التوصل إلى اتفاق، لأن دعم الرئيس بايدن لإسرائيل، حتى عندما قتل جيشها أعدادًا كبيرة من المدنيين الفلسطينيين، يكلفه الدعم السياسي.. وسيتعين نتنياهو أن يختار بين بقاء حكومته، والدعم الحيوي الذي قدمه له الرئيس الأمريكي في الأشهر الأخيرة.
ويُعتقد على نطاق واسع في إسرائيل، أن نتنياهو يريد إطالة أمد الحرب لتأجيل لحظة الحساب، لدوره في الأخطاء التي أعطت حماس الفرصة في السابع من أكتوبر لقتل حوالي ألف ومئتي شخص، معظمهم إسرائيليون، واحتجاز مائتين وأربعين رهينة في غزة.. إن وقف إطلاق النار يعني أيضًا، أن بنيامين نتنياهو لم يحقق (النصر الكامل) على حماس، وهو أحد هدفيه الرئيسيين في الحرب.. والآخر هي تحرير الرهائن، وهو ما لم يحققه أيضًا.
■■ وبعد..
فإن طوق النجاة لنتنياهو هو تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، والاستيلاء على كامل أراضي القطاع لبناء مستوطنات إسرائيلية، ربما يكون فيها العوض عن الفشل الذريع الذي أصاب نتنياهو وحكومة حربه في مقتل، بعد أن أظهرت هذه الحرب، مرة أخرى، مدى الصعوبة التي تواجهها الدول القوية، مثل إسرائيل، في إلحاق الهزيمة بالمنظمات الأضعف، مثل حماس.. لكن الرئيس عبدالفتاح السيسي أكد مرارًا رفض مصر القاطع لتصفية القضية الفلسطينية دون حل عادل، بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر.. مثلما أكد المسئولية السياسية والأخلاقية للمجتمع الدولي فيما يتعلق (بالتحرك الجاد والفاعل لحماية المدنيين الفلسطينيين ووقف سياسات العقاب الجماعي)، وضرورة العمل على التهدئة في غزة، بما يتيح المجال أمام فتح المسار السياسي وصولًا لحل الدولتين (الذي يمثل الطريق الوحيدة نحو السلام العادل والدائم في المنطقة).. لكن نتنياهو لا يريد إلا توريط مصر في مسئولية ما يحدث في غزة، بادعاءات كاذبة، بأن القاهرة كانت وراء إفشال الهدنة مع حماس.. والجميع يعرف أنه كاذب.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.