رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيه اللى جرى؟!


مخطئٌ من يظن أن ما يحدث على الساحة المصرية من مشاهد صادمة؛ تصل إلى حد الترهات والأفعال المستهجنة حول وداخل وتحت قبة البرلمان؛ وما نراه من تطاير الألفاظ النابية والأحذية فى الهواء، ومشاهدة عينات بالصوت والصورة لما يحدث فى قيعان الحارة المصرية، أقول مخطئ من يظن أن هذا بداية انهيار ـ لاقدر الله ـ لبنيان المجتمع؛ أو هو بدايات الدخول فى طريقاللاعودة إلى القيم والأعراف المجتمعية التى تعودنا عليها!

أطمئنكم ـ بكل الثقة ـ أن العكس هو الصحيح، فهذا الذى نشاهده على الساحة وتسمعونه ونسمعه معكم؛ شبيههٌ بما تحدثه قرقعات «سنْ» محراث الفلاح المصرى واصطدامه بالصخور فى عملية تقليبه للتربة؛ لتخرج ديدان الأرض الكامنة بداخلها؛ والتى تقضى على البذور والجذور المبشرة بالثمار الصالحة، لتخرجها إلى شموس الحقيقة الحارقة كى تقضى عليها وعلى كل فطريات جينات العفن والعطن التى أصابتها فى غياهب الظلمة الباردة فى الأعماق!

ومصدر هذه الطمأنينة ـ رغم كل الحوادث الجسام ـ هو ثقتى فى نقاء معدن البشر فى هذا البلد العظيم، فكم من مصائب أثقلت كاهله على طول أحقاب التاريخ ونفضها بكل الإباء والشمم والعزة، وعاد إلى طبيعته السويَّة السمحاء، واندثرت تلك الطبقة التى حاولت وتحاول أن توقف مسيرته وتطمس تاريخه وحضارته، الطبقة ذاتها التى عادت الآن إلى الظهور ـ وبقوة ـ لتثبيط الهمم ونثر غبار العداوة والبغضاء فى النفوس الضعيفة، باستغلال ظروف الفقر التى تحيط بهم، فتداعبهم بالرخيص من المال واللعب على حبل العقيدة الدينية المتجذرة فى النفوس والأرواح؛ لخلق الصراع الذى يؤدى إلى حدوث الشروخ والتصدُّع فى جدران المجتمع لتدميره والقضاء على وجوده لمصالحهم الآنية الضيقة.

وصحيح أن الصراع فى المجتمعات صراع حتمي؛ ولكن أى صراع هذا الذى نقصده؟ إنه الصراع المفترض أن يكون صراع الأفكار المنطقية التى تقارع الحُجة بالحُجة، لا الصراع الذى يفضى إلى قتل بعضنا البعض ماديًا ومعنويًا بشتى الطرق والوسائل، ونجد أننا فى مواجهة كل نقاش يكشف سوءاتنا وضحالتنا الفكرية؛ نضع أصابعنا على زناد مسدساتنا النارية واللفظية لحسم الموقف؛ تنفيذًا للمبدأ الذى وضعه وقننه بعض الجهلاء واقتدى به بعض المغيبين عقليًا؛ وهو: إن مالم يحسمه الفكر.. تحسمه العضلات! ويرجع بعض علماء الاجتماع أن من أسباب هذا الصراع هو التوزيع غير المتكافئ للموارد داخل المجتمع، فيظل البون شاسعًا بين كل طبقة وأخرى؛ وهو الأمر الذى يؤدى إلى انقلاب وخلخلة الموازين فى العلاقات الاجتماعية القائمة، علاوة على استئثار البعض ممن يمتلكون الثروة بالتحكم فى جيوش العمالة التى تحت أيديهم خاصة فى المصانع والشركات الكبرى؛ بالعمل على تهميش دورهم والتدنى فى تقدير أجورهم؛ برغم أن هذه العمالة هى المصدر الرئيسى لثرواتهم؛ وبدونهم تتوقف عجلة الإنتاج فى مواقعهم، وهذا ناتج عن غياب ـ أو عدم تفعيل ـ القوانين الحاكمة المنظمة للعلاقة بين العامل وصاحب العمل؛ فيحتدم الصراع الذى يؤدى إلى تفتيت الجهود والقوى ؛ وتظل كل مجموعة وكأنها جزيرة منفصلة منعزلة عن الجميع.

والحيرة كل الحيرة فى محاولة تفسير هذه السلوكيات التى أصبحت تمثل ظاهرة غريبة على مجتمعنا المصري، وتزداد حيرتنا حين نجدها قد تفشت بين أوساط النخبة والصفوة؛ المفترض أن يكونوا هم قاطرة المجتمع نحو الكمال فى السلوك والتصرفات لترسيخ كل القيم الجمالية؛ ولتعطى للأجيال الصاعدة المثال الجيد والقدوة الحسنة التى يُحتذى بها من الجميع، للقضاء على بعض الانفلات الأخلاقى الذى تقع مسئوليته على الأسرة فى المقام الأول، يليها دور رجال الدين والفكر والمدرسة والجامعة، وعلى رأس كل هؤلاء أهمية الدور الخطير الذى يجب أن يلعبه الإعلام بصنوفه؛ وتأثيره الشديد على تشكيل الإحساس الجمعى لكل البشر الذين يعيشون على أرض الوطن.

ولا أخفى سرًا إذا قلت إن من أسباب هذه الظاهرة التى تواجهنا، هو غياب الهدف القومى الذى يجمع الكل للانصهار فى بوتقة واحدة، حيث يعرف كل عنصر فى المجتمع واجباته التى يسعى إليها، ويعمل الجميع فى سيمفونية ذات إيقاع «هارموني» كالجوقة الموسيقية التى تخلو من النشاز، وتعمل على إذكاء جذوة الإحساس بقيمة الوطن والمواطنة الحقيقية . فهلا سارعنا بجدية والتزام بإحياء مشروعاتنا القومية بعيدة المدى؛ لتجتمع القلوب حول تحقيقها بكل الإخلاص والعزيمة والإيمان الذى لايتزعزع بنبل الهدف ومقاصده. ودعونى أتمنى ونحن على أبواب الربيع؛ أن نجده نابضًا بالأمل فى نفوسنا جميعًا؛ لتتفتح أزاهيره داخل أعماقنا، ولنزيل ماعلق بداخلنا من غبار صنعته الأحداث الطارئة على مجتمعنا المصرى فى الحقبة الأخيرة، فحجبت ستائرها بعض الرؤى والرؤية التى أخذتنا بعيدًا عن مفاهيمنا وأعرافنا المجتمعية السمحاء؛ وعرجت بنا إلى طرق فرعية تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد للعودة إلى الطريق الصحيح.. وهذا يتطلب أن نعرف بالضبط: إيه اللى جرى؟

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون