رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شهداؤنا يصبِّحون على مصر بأرواحهم!


مَنْ مِنْ معاصرينا من أبناء الجيل الحالى يعرف هذا الرجل العصامي، الذى جاء من إحدى قرى الصعيد النائية، وعمل واجتهد وتعلم القراءة والكتابة واللغات الأجنبية، ليصبح نائبًا عن دائرة باب الشعرية قبل ثورة 1952 ولمدة خمسين عامًا؟ إنه أعرق البرلمانيين المصريين الحاج سيد جلال- مؤسس وصاحب مستشفى باب الشعرية الجامعى- الذى حمل اسمه تمجيدًا لذكراه، وصرحًا شامخًا لعلاج الفقراء من أهل الحى وكل حى فى ربوع مصر. هل تعرفون كيف شيد مستشفاه؟!...

...لقد قام بطرح ما سمى وقتها بـ «مشروع القرش» الذى يحض المواطنين على التبرع لصالح المشروع بـ «قرش صاغ»، ولعل شريحة عريضة من الجيل الحالى لا يعرفون الـ«قرش»، إنه كان يمثل واحدا على مئة من الجنيه المصرى أيام كان يناطح الجنيه الذهب فى قيمته التبادلية الشرائية، وعلى هذا تم جمع الأموال التى شيدت المستشفى بحى باب الشعرية والذى أصبح ـ فيما بعد ـ تابعا لجامعة الأزهر الشريف، فقد كان يجلس أمام لجنة الانتخابات لمجلس الأمة، خالعًا طربوشه، وكان الناخبون يخرجون بعد أن أدلوا بأصواتهم ويضع كل ناخب قرشاً أو نصف قرش فيه، وهو يجلس مبتسماً واثقاً محاطًا بالحب والإعزاز فى وقت كانت فيه أصوات الناخبين تُشترى.

قفز إلى ذهنى تاريخ هذا الرجل الوطنى المخلص، الذى قدح زناد أفكاره وخرج بها إلى حيز التنفيذ ، عندما طالعنا ـ بكل الأسف ـ هذه الحملات المسعورة التى قامت فى وجه دعوة القيادة الوطنية إلى التبرع بـ «جنيه» فى المبادرة التى اتفق على تسميتها: «صبـَّح على مصر بجنيه»، وقامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن فى صفحات بعض الموتورين، الذين لاهم لهم سوى النقد غيرالموضوعى ـ دون تقديم الحلول البديلة ـ وهم قابعون خلف شاشات الكمبيوتر، التى يدفعون من أجلها عشرات الجنيهات كل دقيقة، ويستكثرون على الوطن المشاركة فى الخروج به من منعطف التعثر الاقتصادى الطارىء، نتيجة مايواجهه من حروب داخلية شرسة وسط ظروف أقسى من ظروف الحروب المسلحة، وفى مواجهة شراذم من المرتزقة الذين لا يعرفون قدر ومقدرات الوطن. والعجيب الغريب فى تصرفات من يسمونهم فى العُرف الشعبى المصرى العبقرى بـ «عواجيز الفرح»، وهم الفئة التى «لايعجبها العجب .. ولا الصيام فى رجب» ويقومون بالإنفاق ببذخ مستفز على كل السلع الاستهلاكية التى تعد من الكماليات، ويتندرون ويبخلون على الوطن الذى أعطاهم نعمة الحياة فى أمن وأمان، ومنحَهُم بالمجان الشهادات الدراسية التى يتشدقون ويتباهون بحيازتها، ونسوا أو تناسوا فضله عليهم وعلى عائلاتهم. وهم فى هذه التصرفات المشينة يتنصلون من كل ولاء وانتماء له.

وشتان بين حملة هنا تدعو إليها القيادة السياسية الوطنية الواعية فوق ربوع مصر المحروسة، وتدعو للتبرع بالقدر اليسير لكى تجعلك تلقى تحية الصباح على الأم الرؤوم بمقدار «جنيه» واحد، وهو لا يساوى ثمن دقيقة واحدة فى الثرثرة التى لا طائل وراءها على أجهزة المحمول، وبين حملة هناك فى الغرب على لسان اللوبى الصهيونى العالمى أعداء الإنسانية، اتخذت لها شعارًا متحديًا ومستفزًا لعقولنا وتاريخنا نحن العرب، وانتشرت تلك الحملة فى ربوع أوربا والعالم الغربى بقيادة الصهيونية العالمية، وشعارها: «ادفع دولارًا لتقتل عربيًا» !! والأدهى والأمَرْ، أن كل من لاوطن لهم ولا ملجأ ولا ملاذ من أصحاب العقيدة الصهيونية يسارعون بإرسال الملايين من الدولارات إلى بنوك الكيان الصهيوني، لتتحول إلى أسلحة فتاكة تصيبنا فى مقتل، أملاً فى تحقيق حلم اسرائيل من النيل إلى الفرات، ولتكون نجمة داود فوق رايتهم الزرقاء هى التى تحكم العالم!

فإلى أى الحملات ننتمى أيها العقلاء؟! وينتمى إليها كل أصحاب القلوب الشريفة التى تعشق تراب الوطن المقدس؟! بالتأكيد لابد أن يكون الانتماء للحضن الدافىء والملجأ والملاذ والظل الظليل الذى يحتضن الأبناء الشرفاء الذين يقدمون طواعية كل فروض الولاء والانتماء بكل النزاهة والحيدة والحب، فعندما طال ليل الاحتلال البغيض فى مصرنا الحبيبة كان للفن دوره العظيم فى إيقاظ الهمم وشحذ المشاعر، حيث تغنى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب من كلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل قائلاً: مصــــــر نادتنا فلبينا نداها.. وتسابقنا صفوفاً فى هواها.. فـإذا رام ٍ على الأرض رماها.. ترخص الأرواح و الدنيـا فداها.

ومصر اليوم تنادى على أبنائها الشرفاء الذين يقدسون ترابها الذى اختلط بدماء الشهداء وعظامهم الذين هانت عليهم أرواحهم، والنفس لا تقدر بثمن أغلى من مجرد جنيه، ألا تستحون وتشعرون بتقازمكم أمام أصحاب التضحية الحقيقيين، الذين قدموا الغالى والنفيس من أجل حريتها وكرامتها، لينقذوها من عثرتها الطارئة، هيا نثبت لأنفسنا ولمصرنا الحبيبة وللعالم أجمع أننا أبناء أوفياء، ولن نكون أبدًا كالابن العاق الذى يترك أمه الرؤوم فى قلب الطوفان. فهل سنلبى النداء أم سنلقى بها فى مهب الريح؟!