رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كلنا عاوزين سعادة!


هل سمعتم عن: عهُود، لُبـنى، شـمَّـة؟.. إنهن على التوالى: عهُود الرومى، لُبنى القاسمى، شمَّة المزروعى، وهنَّ من تولين مسئولية الحقائب الوزارية لوزارات السعادة، التسامح، الشباب، فى دولة الإمارات العربية. ولكن فى الحقيقة لم تأت الإمارات بما لم يأتِ به الأوائل، عندما أحدثت هذه الفرقعة الإعلامية ـ ليس إلا ـ بإنشاء وزارة «السعادة»!، وكأنها ـ وهى الدولة الغنية بثرواتها البترولية ـ تعزينا فى حالنا نحن بقية الدول العربية الفقيرة فى موارد ثرواتها الطبيعية، الغنية بقدرات الإنسان الذى يعيش على أرضها، فالفنان المصرى إسماعيل ياسين منذ ما يقرب من ستين عامًا قام بغناء مونولوج فكاهى من كلمات الشاعر الغنائى أبو السعود الإبيارى، تقول كلماته: كلنا عاوزين سعادة.. بس إيه هىَّ السعادة.. واللا إيه معنى السعادة.. قل لى يا صاحب السعادة.. قل لى.. قل لى!!...
ومما لاشك فيه أننا جميعًا نبحث عنها، فـ «السعادة» كلمة خفيفة على اللسان، حبيبة إلى قلب كل إنسان، وهى شعور داخلى يشعر به بين جوانحه، ولكنها تحتاج إلى هدوء وسكينة النفس والتصالح معها، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وراحة الضمير، ويقول الشاعر: يا مُتعب الجسم كم تسعَى لخدمته.. أتعبــتَ جســمك فيما فيه خسـران.. أقبل على الروح واستكمـلْ فضائلها.. فأنت بالـروح.. لا بالجســم إنســــان!

ويقول المفكر «تولستوي» وهو من عمالقة الروائيين الروس: «إنّنا نبحث عن السّعادة غالباً وهى قريـبة منّا، كما نبحث فى كثير من الأحيان عن النظّارة وهى فوق أعيننا». وكثيرًا ما يتصور الناس ـ خاصة الأجيال الشابة ـ أن السعادة تتناقض مع الحكمة، وأن الحكمة التى يتمتع بها كبار السن أو الفلاسفة قرينة العبوس والتجهُّم و «لوْى البوز»، وعدم الاكتراث بحُسن المظهر أو بمباهج الحياة، وفى الوقت ذاته يتصورون بالخطأ أن السعادة فى الثروة أو فى المنصب الرفيع، أو فى ممارسة حياة ممتعة بجميع ملذاتها و أشكالها المادية التى تتجلى فى إشباع الرغبات التى تنتهى بزوال المؤثر، ومع هذا يعدون تلك المتعة المؤقتة هى عين السعادة وجوهرها.

ولكن لننظر إلى واقعنا المصرى الذى تلقَّى نبأ هذه الترشيحات الوزارية بالإمارات العربية ـ وليس لنا ـ بالتأكيد ـ أدنى اعتراض عليها فهذا شأنهم الداخلى ـ بروح التندر والسخرية المعتادة فى طبيعة وتركيبة الروح المصرية، التى تقوم على فلسفة كل الأمور بالطرفة أو بالنكتة ذات المذاق الحار، فسمعنا من يقول: أليست فى حكومتنا وزارة «التموين» وهى كفيلة بتحقيق أقصى درجات السعادة للبطون الخاوية، عندما تقوم بدورها الفاعل، وتؤمِّن للعائلة المصرية «رغيف الخبر» لاستمرار الحياة الكريمة، دون أن يسألوا الناس إلحافًا، والعُرف قد جرى على أن يتم الرمز بـ «الرغيف» كمعادل موضوعى لمصدر القوت للحياة، ونقول: بلى!! فوزارة التموين يقع على كاهلها صُنع تلك السعادة الغائبة عن نفوس الكادحين وطموحاتهم، الخارجين إلى أرزاقهم قبل أن تقوم الشمس من خِدْرها!

تلك هى السعادة المتمثلة فى غذاء البطون الجائعة.. فمابالنا بغذاء العقول، وما يصنعه العقل من سعادة للفرد والأسرة والمجتمع بأسره: صغيرُه وكبيرُه، وهُنا كان يجب علينا ـ وبديهيًا ـ أن نطلق لقب «السعادة» على وزارة «الثقافة»، فهى التى يجب أن تكون على رأس فيالق وجحافل كتائب الشعب، وتتولى مهام القائد والموجه والمعلم، الذى يرسم لوحة السعادة الكاملة بكل ألوان قوس قزح فى أذهان وعقول كل البشر، التوَّاقين إلى السعادة بكل صنوف المعارف على أرض الوطن، وبها نبلغ أقصى درجات السعادة المنشودة،حتى لو لم نطلق عليها هذا اللقب الفضفاض، الذى لم نصل بعد إلى ترجمته ترجمة حرفية تصل بنا إلى كبد الهدف. فالسعادة.. هى الخيط الوهمى الرفيع الذى يربط القلوب والأرواح ببعضها البعض، وهذا الرباط يتمثل فى العلاقات العائلية والصداقات الصادقة المحترمة، والمعاملات التى تعطى مالله لله، وما لقيصر لقيصر!، فهذا هو الأساس وحجر الزاوية فى صنع سعادتنا النابعة من الإيمان القلبى عقيدةً وسلوكًا ومحبةً للوطن وترابه المقدس.

وأتساءل بدورى: ما مهام «وزارة البيئة»؟ لقد بلغت قمة المأساة فى المجتمع المصرى: غنيُّـه وفقيرُه.. أن يُصبح لفظ «بيئة» يعطى معانٍى ودلالات أخرى رائحتها ليست بالزكيَّة، فيطلقونه على كل التصرفات غير المنضبطة، وعلى كل السلوكيات الهمجية التى تقترب من أسوار عالم «البلطجة» والخارجين على القانون. فماذا فعلت وزارة البيئة، لتنفى من الأذهان هذه المفاهيم التى التصقت بها؟، وأين هى فى الشارع المصرى الذى يموج بكل تيارات الفوضى وعدم الالتزام، والعمل على قتل ووأد كل «جينات السعادة» التى تحاول ـ على استحياء ـ أن تتشكَّل وتتخلَّق لتجد لها مكانًا فى جنبات البلاد والعباد. كلنا عاوزين سعادة .. ولكن: كيف؟

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون