رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محاكاة الحياة


غل السجن حيزاً كبيراً من حياتى واقتطع منها عددا غير قليل من أقربائى بدءاً بوالدى الذى اعتقل ثلاث سنوات من عام 1953 حتى1956، ثم أخوالى، ثم أصدقائى، إلى أن وجدتنى فى ضيافة معتقل القلعة فى فبراير 1968 لمشاركتى فى المظاهرات الطلابية التى اندفعت تحتج على عدم محاسبة المسئولين عن نكسة 67...

.. واستمرت استضافتى ثلاثة أعوام قضيتها بين جدران زنازين القلعة وطرة والقناطر. وكان غياب والدى عنا ونحن صغار أول ما أثار فى نفسى أسئلة العدل والظلم بعمق حتى لو كانت ساذجة. وفى كل مرة كان يعتقل فيها قريب أو صديق كنت أشعر أننى أقضى معه سنواته وراء القضبان. لهذا أحسب أننى اعتقلت لزمن طويل جداً، حين كنت محبوساً وحين كنت حراً والآخرون فى السجن. وجعلتنى سنوات الحبس أعدل – لزمن- عن الإبداع الأدبى، بظن أنه لا قيمة للكلمة أو الشعر أو القصة أياً كانت فى معركة صراع بالقبضات. ومازلت أذكر إلى الآن المرة الأولى التى زرت فيها والدى فى المعتقل ولم أكن قد تجاوزت الثامنة. أذكر أننى مضيت مع أمى فى رحلة شاقة متهيباً طوال الطريق سعادتى التى أترقبها عند رؤية والدى الذى لم أره من قبل، وأننا جلسنا أنا وأمى على دكة خشبية فى حجرة مأمور السجن، ثم ظهر أبى فجأة عند فتحة باب الحجرة ومعصم يده مقيد إلى معصم يد حارس عجوز، وما إن رآنا والدى حتى ضحك بقوة ناظراً إلىَّ وأومأ برأسه يشير إلى الحارس العجوز قائلاً: «انظر! لقد قمت بسجن هذا الرجل لأنه شقى!». وأزاحنى قليلاً من على طرف الدكة وجلس بجوارى وابتسم. أدركت أنه يجتهد ليهبنا الأمل والحرية فى قبضة السجن واليأس. ولم أدرك ما هو الحبس إلا عندما طوتنى أربعة جدران كالحة إلا من أسماء مجهولين عبروا من هنا ونقشوها بأطراف المسامير على الجدار. وبمرور الوقت أحسست بأن الاعتقال أشبه ما يكون بالإمساك بالحياة داخل الموت: الصمت والسكون والإحساس بالعزلة والخوف من التعذيب والموت. الفعل الوحيد المسموح لك به فى الحبس هو أن تدوس أيامك وحياتك ذهاباً وإياباً داخل زنزانة حجرية وعليك أن تواصل قتل نفسك لكى تشعر أنك حى! لقد اخترعوا لتعذيب الإنسان ما يسمى «محاكاة الغرق»، أما السجن فإنه محاكاة الموت أنت فيها الممثل والموضوع والمشاهد. لذلك طالما راودتنى أمنية أن أرى حديد القضبان يمسى جزءاً من حديد المصانع، وأحجارها وهى تغدو لبنة فى جدار مدرسة. وكل ما أتمناه الآن مع مطلع العام الجديد ألا أرى داخل السجون أحداً من زملائى الصحفيين المعتقلين والذين بلغ عددهم أكثر من ستين صحفياً، ما بين محكوم عليه ومحبوس احتياطيًّا ومحتجز، بحسب ما رصدته لجنة الحريات بنقابة الصحفيين، منهم سبعة يعانون من حالة صحية متدهورة. عدد كبير منهم تم إلقاء القبض عليه أثناء تأديته عمله. أتمنى أن يهل العام الجديد وقد خرج الجميع، وعادوا إلى أعمالهم وأطفالهم، لأن كل معتقلرأى أو فكر هو قطعة منتزعة من حريتنا. أتمنى مع مطلع العام الجديد أن تكون حياتنا محاكاة للحياة، ومحاكاة للحرية، ومحاكاة للجمال، ليس بها طفل واحد تصبغ السجون بلونها القاتم ذكرياته المبكرة.