رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أثر العبادة فى السلوك «1-2»


انظر أيها القارئ إلى هذه القصة من التراث الجميل، حيث يوجه الإمام الغزالى رحمه الله تعالى، أحد تلامذته فى رسالة له إلى الفضائل، وكيف استطاع هذا الولد المحب لشيخه، وطبعاً لربه ورسوله ودينه، أن يستخلص مما يقرأ دروساً تشكل عقله وفكره، وتكون نبراساً له فى الحياة- حتى إن شيخه وإمامه الغزالى قال له، إنك بفهم واستيعاب واستخلاص المسائل الثمانى، قد جمعت علوم القرآن والتوراة والإنجيل والزبور.

... وهذا هو الجوهر الذى نسعى إليه والى تحقيقه وخصوصاً فى رمضان شهر الخيرات والبركات والسلوك الحسن. قال الغزالى لتلميذه المحب: أيها الولد: إن حاتم الأصم كان من أصحاب شقيق البلخى، رحمة الله تعالى عليهما، فسأله يوماً قال: صاحبتنى منذ ثلاثين سنة ما حصلت؟ قال: حصلت ثمانى فوائد من العلم، وهى تكفينى منه لأنى أرجو خلاصى ونجاتى فيها. فقال شقيق ما هى؟ قال حاتم: الفائدة الأولى: أنى نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوباً ومعشوقاً يحبه ويعشقه، وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت، وبعضه يصاحبه إلى شفير القبر، ثم يرجع كله، ويتركه فريداً وحيداً، ولا يدخل معه فى قبره منهم أحد، فتفكرت وقلت: أفضل محبوب المرء ما يدخل معه فى قبره، ويؤنسه فيه، فما وجدته فى غير الأعمال الصالحة، فأخذتها محبوبة لى، لتكون لى سراجاً فى قبرى، وتؤنسنى فيه، ولا تتركنى فريداً.

الفائدة الثانية: إنى رأيت الخلق يقتدون أهواءهم، ويبادرون إلى مرادات أنفسهم، فتأملت قوله تعالى «وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هى المأوى». وتيقنت أن القرآن حق صادق، فبادرت إلى خلاف النفس وتشمرت بمجاهدتها، وما متعتها بهواها، حتى ارتضت بطاعة الله تعالى وانقادت. الفائدة الثالثة:أنى رأيت كل واحد من الناس يسعى فى جمع حطام الدنيا، ثم يمسكه قابضاً يده عليه، فتأملت فى قوله تعالى: «ما عندكم ينفد وما عند الله باق» فبذلت محصولى من الدنيا لوجه الله تعالى، ففرقته بين المساكين ليكون ذخراً لى عند الله تعالى. الفائدة الرابعة: أنى رأيت بعض الخلق يظن أن شرفه وعزه فى كثرة الأقوام والعشائر فاعتز بهم. وزعم آخرون أنه فى ثروة الأموال وكثرة الأولاد، فافتخروا بها. وحسب بعضهم أن العز والشرف فى غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم. واعتقدت طائفة أنه فى اتلاف المال وإسرافه وتبذيره، فتأملت قوله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» فاخترت التقوى واعتقدت أن القرآن حق صادق، وظنهم وحسبانهم كلها باطل زائل.

أما الفائدة الخامسة:أنى رأيت الناس يذم بعضهم بعضاً، ويغتاب بعضهم بعضاً، فوجدت أصل ذلك من الحسد فى المال والجاه والعلم، فتأملت فى قوله تعالى: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا»، فعلمت أن القسمة كانت من الله تعالى فى الأزل، فما حسدت أحداً، ورضيت بقسمة الله تعالى. والفائدة السادسة:أنى رأيت الناس يعادى بعضهم بعضاً لغرض وسبب، فتأملت فى قوله تعالى: «إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا»، فعلمت أنه لا يجوز عداوة أحد غير الشيطان. والفائدة السابعة: أنى رأيت كل أحد يسعى بجد، ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش، بحيث يقع فى شبهة وحرام، ويذل نفسه وينقص قدره، فتأملت فى قوله تعالى: «وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها»، فعلمت أن رزقى على الله تعالى وقد ضمنه، فاشتغلت بعبادته، وقطعت طمعى عمن سواه. والفائدة الثامنة: أنى رأيت كل واحد معتمداً على شىء مخلوق، بعضهم على الدينار والدرهم، وبعضهم على المال والملك، وبعضهم على الحرفة والصناعة، وبعضهم على مخلوق مثله، فتأملت فى قوله تعالى: «ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا»، فتوكلت على الله تعالى، فهو حسبى ونعم الوكيل. .فقال شقيق لتلميذه حاتم الأصم بعد أن استمع إلى تلك الفوائد الثمانى: وفقك الله تعالى: إنى قد نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فوجدت الكتب الأربعة تدور على هذه الفوائد الثمانى، فمن عمل بها كان عاملاً بهذه الكتب الأربعة. هذه القصة طبعاً ليست للتسلية أو مجرد الترويح، وإن صلحت لهذا أيضاً، ولكنها للإيقاظ والإنقاذ والعبرة واستخلاص الدروس، والاعتياد على ذلك حتى نهضم ما نقرأ أو نتعلمه، ونفهم منه كيفية النهوض والنماء وكل عام وأنتم بخير. والله الموفق.