رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخرس العائلى آفة العصر


لكل زمان سماته الثقافية، ففى الجاهلية عرف الناس الشعر، فتبادل الشعراء الهجوم أو المدح فكتبوا القصائد الطويلة للتعبير عن حياتهم واهتماماتهم، مثل امرؤ القيس أو عنترة العبسى الذى كتب معلقة طويلة منها هذا البيت:

 وقد يتشاجروا ثم يعودوا ليتصافحوا ويتصالحوا، أما من يتأمل اليوم فى الحياة العامة بداية من الحياة الأسرية فيرى العجب العجاب، وإليكم مثال لحياة الأسرة اليوم فى عموميتها عائلة نموذجية بمقياس العصر، الآباء يعملون، والأطفال منهم من التحق بالتعليم ومنهم من لم يبدأ بعد، يعود الوالدان من العمل يلتفون حول مائدة العشاء فهى ربما الوجبة الوحيدة التى تجمعهم لنحو نصف الساعة، لا يتعدى فيها الحديث عن دقائق معدودة بعدها يعود كل إلى حاسبه الآلى حتى الطفل دون الرابعة له حاسوبه، المناسب، وهو يعرف كيف يتعامل معه، ويقلب الأفلام والألعاب فى سرعة وحرفية تصعب علينا متابعتها، والأكبر سناً لديهم برامجهم المناسبة والتى تلتهم الوقت دون كلل أو ملل، وعندما يطلب منهم الدخول إلى غرف نومهم فهم يحملون معهم أجهزتهم التى أصبحت كل شىء فى حياتهم، صحيح أنهم سبقوا أجيالنا وتفوقوا فى المعرفة الحديثة حتى إن الطفل الذى و الطفلة التى لم يتجاوز عمرهم الثامنة ولا يزالوا فى العام المدرسى الثالث من المرحلة الابتدائية يجيد القراءة بسرعة فائقة، فحفيدتى مثلاً تنهى كتاباً تجاوزت صفحاته المائتى صفحة قبل أن ينتهى الجد من كتاب فى ذات حجم كتاب حفيدته، وكلاهما باللغة الإنجليزية.

تأملت الآباء والجدين والأحفاد على مدى أيام وكل منكب على حاسبه فى صمت وهدوء لساعات طويلة ولم يقطع الصمت كلمة واحدة مشتركة، حتى التليفزيون فلم يعد موضع التفاف ولو لسماع الأخبار فهى قديمة بالية بالنسبة لما يشاهده كل عضو من أعضاء العائلة الكبيرة أو الصغيرة، فمن يريد متابعة خبر فى بلد أو حتى على صعيد عالمى، فالأخبار حية متداولة لكل من يريد، أما الأطفال فعالمهم مختلف ودنياهم غير دنيانا، والجدود ربما لو ناديناهم فقد لا يسمعوا، فهم فى اجتماعاتهم بأصدقائهم عبر القارات ومختلف الوديان ومن مختلف الأعراق والجنسيات يتبادلون الخبر فور، حدوثه، ويتبادلون التهانى أو التعازى فى صمت، وإن أرادوا الحديث فلهم أيضاً ذلك، فالسماعات فى الآذان ومكبرات الصوت مثبتة بالرؤوس، وهم فى غرفهم لا يسمع لهم صوت، ومنهم من لا يستخدم لغة الكلام، بل إصبع الأيدى التى لا تكاد أراها لسرعتها، فقد تعودوا وتمرسوا، فالمدرسة ونظم التعليم ساعدتهم على ذلك، وسوف نتناول التعليم فى مقال تال من حيث نظمه فى بلاد العم إن جاز دعوتهم كما تعودنا قديماً أن نطلق عليهم أبناء العم سام، فربما ندعوهم فى الإنسانية أخوة، وفى سبق المعارف معلمين، وفى غير ذلك مختلفين، وحاجتنا وحاجتهم أن نكون محاورين لعلنا نصحح الكثير من المفاهيم الخاطئة بالنسبة لكلينا، ولعلنا نصل إلى مساحات أوسع من التواصل وتبادل المعلومات التى شاهدتها الأحداث غير المريحة من الجانبين نتيجة التباعد وتزييف الحقائق فى الجانبين بفعل أطراف لها أهدافها وبرامجها ومصالحها، عكرت الأجواء، وشوهت الحقائق، وخلطت بين البوابة الخاصة بكل فريق وبين ما هو يمكن أن يكون مشتركاً للصالح العام، ولأجيالنا ولأولادنا وأحفادنا.

أعود إلى ما بدأت به وتحت عنوانى الذى أراه مشتركاً إلى حد كبير بين الجميع، لا فرق فيه بسبب دين أو عرق أو لغة أو ثقافة أو حتى حضارة أو مستوى مادى، وإن كانت الإصابة بهذا الخرس مرتفعة نسبته بين شعوب العالم الأول عن غيره من شعوب العالم الثالث بسبب تقدم وسائل المعلومات وإتاحة وسائل التواصل، ولكن عدوى الخرس العائلى سريعة الانتشار، وإن لم تتوافر الحواسب الآلية فعلى الأقل دخول التليفزيون فى معظم البيوت فى بلادنا والذى نشاهده حتى بين ساكنى القبور، فقد غير من طبيعتنا ولم تعد أخبار أولادنا سواء فى تعليمهم أو فى علاقاتهم مع خلانهم لها المساحات الكافية التى تجمع الأسرة حولها، والنتيجة هى انتقال فيروسات الخرس العائلى إلى كل شعوب العالم بدرجات متقاربة، وتأثير هذه الفيروسات شديد التأثير، ومنها:

أولاً: ضعف العلاقات الحميمة بين أفراد العائلة، والتى تؤثر حتماً على درجة تماسك العائلات، وعلى قوة مواجهة الملمات سواء كانت الأحداث جسيمة أو عابرة، وأزعم أن مستوى مؤشر نسبة الطلاق أو الانفصال بين الأزواج قد ارتفع نتيجة لداء الخرس الزوجى.

ثانياً : تدهور المستوى التعليمى بين الأبناء والبنات، سواء بسبب انشغال الآباء عن متابعة أولادهم أو بسبب ضعف أداء المعلمين والمعلمات لذات الأسباب والمبررات.

ثالثاً: ارتفاع معدل الجريمة بأنواعها المتعددة، حتى وإن رجع ذلك إلى أسباب أخرى متعددة، إلا أن إهمال الأسرة للأبناء، والتقصير فى المتابعة المدرسية أو المنزلية يشكل العامل الأكثر تأثيراً.

رابعاً: سوء استخدام أجهزة التواصل بالانحراف إلى برامج ومناهج غير مناسبة عمرياً، أو فكرياً، أو أخلاقياً، ومنذ أيام سمعت حواراً بين ولدين فى مرحلة المراهقة كانا يتبادلان عبر وسائل التواصل كيفية صناعة القنبلة، ورغم أن والد أحدهما أدرك ما يتبادله ابنه وانتهره ليغلق هذا التواصل، إلا أن والد الصبى الآخر سارع بإبلاغ الجهات الأمنية حتى إنه لم تمض أكثر من دقائق معدودة حتى كانت أجهزة الأمن قبضت على أسرة الصبى الذى بدأ التعرف على طريقة عمل مثل هذه المواد، وتم القبض على الصبى، ومن يلوذ به، ومن تواصل معهم، ولم يفرج عنهم حتى تأكدت الجهات المسئولة من عدم اتساع دائرة نشر مثل هذا الخبر.

وحتى لا نتوسع فى آثار ذلك المرض المسمى بالخرس العائلى، فهى عديدة، إلا أن المساحة لا تكفى لمزيد من التفصيلات، وتبقى المشكلة بآثارها الأسرية والمجتمعية تحتاج لثورة ثقافية إنقاذاً للأسرة والمجتمع.

الرئيس الشرفى للطائفة الإنجيلية