رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سقط بالتقادم

على وسائل التواصل الاجتماعى يدور جدل حول تقييم فترة حكم الرئيس مبارك، وما إذا كان خروج الناس عليه فى ٢٠١١ قرارًا صائبًا أم خائبًا؟ وما إذا كانت الأمور قد سارت للأفضل أم للأسوأ بعد رحيله؟.. وهى كلها أسئلة تتطلب إجابات بسيطة بنعم أو لا على طريقة برنامج «من سيربح المليون»، فى حين أن الحياة عمومًا والسياسة خصوصًا أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير.. ومن وجهة نظرى الخاصة، فإن حكم الرئيس مبارك لم يسقط بسبب خروج الناس عليه ولكنه سقط بالتقادم.. كما تسقط الأحكام القانونية بعد مرور ثلاثين عامًا على صدورها.. لأن الحال بعد ثلاثين عامًا يكون غير الحال، والزمن يكون غير الزمن، وبالتالى فلا بد من سقوط الماضى وانجرافه أمام تيار المستقبل، بغض النظر عن اعتقاد الإنسان عمومًا أن «كل ماضٍ هو جميل».. وبغض النظر عن عبادة المصريين للماضى بشكل خاص، وولعهم بتقديس الفراعنة، والخلفاء، والأولياء، والباشوات، وصولًا إلى فنانى الزمن الجميل الذين كانوا يعيشون زمنًا عاديًا نراه نحن جميلًا فقط لأنه ماضٍ ونحن نعبد الماضى.. أما عن التفاصيل فأنا أحترم الرئيس مبارك كقائد عسكرى كبير، وكرجل يملك القدرة على الإدارة، وإن افتقد القدرة على الحلم، وأقول إنه ارتكب خطايا فى حق وطنه قادت مصر إلى الهاوية لولا أن انتشلتها ثورة ٣٠ يونيو قبل السقوط الكامل. وأولى خطايا الرئيس مبارك من وجهة نظرى أنه لم يتعامل بالمسئولية الكاملة تجاه مستقبل مصر من بعده، وفكر بطريقة تليق برجل صغير لا بقائد كبير، ولو نظرنا لتاريخ مصر منذ ثورة يوليو لوجدنا أن كل رئيس حكم مصر فكر فى مستقبل البلاد من بعده، فالرئيس جمال عبدالناصر عيّن الرئيس السادات نائبًا له، ليتولى الحكم بعد وفاته وفقًا للدستور والقانون، وقد حمى هذا التعيين مصر من صراع كبير، وساندت مؤسسات الدولة الشرعية الدستورية حين حدث خلاف بين أجنحة الحكم، وبالتالى تحقق الاستقرار، والعبور، وإعادة الأرض، ولو لم يحقق السادات شيئًا غير هذا الإنجاز لكفاه، ولكن الرئيس السادات تحلى بمسئولية أكبر تجاه بلده، ولم يفكر فقط فى مستقبل مصر من بعده، ولم يكتف بتعيين أكثر قادة حرب أكتوبر ملاءمة من وجهة نظره، ولكنه تولى تدريبه لمدة ست سنوات وفق برنامج محدد بعد أن عيّنه نائبًا للرئيس، وهكذا انتقلت السلطة بسلاسة رغم صعوبة ظروف اغتيال الرئيس السادات، واتحدت مؤسسات الدولة فى مواجهة الإرهاب، وسارت الأمور بسلاسة لولا رغبة الرئيس مبارك الواضحة فى مهادنة الإرهاب وعدم الحكم بالإعدام على قادة تنظيم الجهاد، والمتورطين فى مذبحة أسيوط، ومن خططوا للتفجيرات فى مختلف أنحاء البلاد، ولكن ذلك حديث آخر يمكن أن نعود له فيما بعد.. ولعل النقيصة الكبرى للرئيس مبارك أنه لم يتحلَّ بالمسئولية التى تحلّى بها ناصر والسادات، وآثر أن يترك مستقبل مصر غامضًا من بعده، وأن يزكى نيران الصراع والتنافس بين رجاله، لأنه لم يحسم إجابة سؤال المستقبل فى سنواته الأخيرة، وكان المؤسف أنه يفعل ذلك لحساب ابنه الأصغر الذى كان يمارس الحكم بالفعل فى آخر عشر سنوات من حكم والده.. ثم تفاقم الأمر فى آخر سنتين بعد مصاب الرئيس مبارك الأليم فى حفيده ليصاب الرئيس باكتئاب حاد، ويصبح فى حالة لا يصلح معها للحكم وفق نصوص الدستور، وتجد مؤسسات الدولة نفسها فى وضع غير مسبوق، يمارس فيه نجل الرئيس الحكم دون نص دستورى ودون صفة رسمية، ويتغول على سلطات الرئيس التى من بينها أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة دون سابق صلة بالمؤسسة التى قدمت كل حكام مصر منذ عهد محمد على وحتى الآن، ودون رضاها، ودون رضا غالبية المصريين الذين أربكهم هذا الوضع المربك فعلًا، وربما لو أدار مبارك نقاشًا صريحًا بين مؤسسات الدولة عن مستقبل البلاد من بعده لكان هذا تصرفًا أكثر مسئولية وأكثر احترامًا للشعب وأكثر وضوحًا.. لكنه لم يفعل، وأبلغ دولة عربية كبيرة بأنه يعتزم توريث نجله فى مايو ٢٠١٠ قبل أن يبلغ شعبه! وقبل أن يبلغ مؤسسات دولته! وقبل أن يبلغ المؤسسة العسكرية التى ينتمى إليها واستمد شرعيته منها.. وهى كلها أخطاء ارتقت إلى درجة الكوارث، وكانت هى دون غيرها السبب الأول فى زعزعة استقرار البلاد، وفى إثارة غضب الناس، وفى إعطاء الفرصة للعملاء وأصحاب الأغراض لتحقيق أهدافهم، ولو تعامل الرئيس مبارك بمسئولية وإنكار ذات مع مستقبل مصر منذ ٢٠٠٥ لاختلف الوضع كثيرًا ولجنب البلاد الكثير ولما أصبح كيلو اللحم بربعمائة جنيه.. رغم أن الرئيس مبارك تسلم البلاد وهو بجنيهين اثنين وتركها وهو بستين جنيهًا.. أى أنه زاد ثلاثين ضعفًا فى عهده! ولكن ذلك حديث آخر.