رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيدات العزيز

نزار كربوط
نزار كربوط

دفع عزيز باب المطعم مُبتعدًا عنه بضع خطوات، أشعل سيجارة فى انتظار أن تلتحق به منال التى استأذنته فى الدخول إلى الحمام بعدما تناولا عشاءهما وشربا قنينتى نبيذ أندلسى من الصنف الذى يحبانه. مال بجسده على عمود نور يتوسط الرصيف ناظرًا إلى المارة الذين يعبرون الزقاق، وكل منهم يحمل فى حقيبته رواية لم يقرأها أحدٌ غيرهم، شرب السيجارة بحرقة، ثم حدث نفسه قائلًا:

«كنت أعلم أن هذا سيحدث يومًا، التكلم مع شخص من وحى الخيال، تبًا لى ولهذا العالم القذر، إنه يعرف كل أسرارى ويقرأ أفكارى ويغوص حتى فى منامى. الآن أنا مُلاحق من طيف ذلك الولد الغريب الأطوار، وربما آخرون لم يحن وقت التعرف إليهم بعد، فى لحظة قررت أن أدخل حياة منال من بابها الواسع، وفى لحظة يمكننى الخروج بلا مشاكل أو عقبات، ربما حبها بعيد عن الصواب، أنا من يتحدث عن الصواب، أين هو العقل السليم المفترض خوضه فى المنطق، العقل الذى يكلم طيف طفل صغير يعلم ما لا أعلم، أنا لم أخلق لأكون العاشق الولهان، ولم أوجد لأضع نفسى داخل إطار الإنسان المنظم والمواطن الصالح الذى يقوم بواجبه، أو بالأحرى بدوره المفترض؛ تشييد بيت وملؤه بالأطفال وزوجة تنتظر طلته آخر النهار، أنا أعيش فى زمن يختلف كثيرًا عما مضى، إيقاع هذا الزمن أصبح متسارعًا ولن ينتظر أحدًا، فى النهار أصير ذلك الصحفى المثقف العالم بالتاريخ والفلسفة والفنون، أما فى الليل فأنا ذلك الصعلوك المتسكع فى شوارع الرباط وحاناتها المتناثرة باحثًا عن نفسى المفقودة وملامحى التى ما زلت أبحث عنها وسط الركام، فهل هذا معقول؟ بالطبع لا».

خرجت منال من المطعم وهى تلتفت حولها باحثةً عن عزيز، تطلعت إليه واقفًا يحدق فى العابرين ناظرًا إلى الأقدام، وهى ترسم الخطوات على وجه الطريق، اقتربت منه ملقية نظرة خفيفة على وجهه ثم قالت له: 

«عفوًا على التأخير». 

لم يجبها، هز رأسه فقط، ثم أضاف محدثًا نفسه:

«ها هى تنظر إلى الآن بعينيها الساحرتين، لكنى خارج هذا العالم الآن وبعيد عن نظراتها هاته، أنا فى داخلى أسأل نفسى عن بقايا روح عالقة فى القاع، أنا على حافة الجنون، وها هى تضيع وقتها فى محاولة فهم حياتى، ماذا ستفهم؟ لا شىء يفهم فى هذا الوجود، يبدو أننى صرت مجنونًا، أنا أهذى، اللعنة، لقد انفجرت خلايا دماغى، هذه السيدة لا تستحق مِنى كل هذا، وحتى إذا فكرت فى إبعادها عنى فى المرة المقبلة يجب أن أكون مقنعًا أكثر برواية أكثر قوة، ماذا لو أخبرتها بالحقيقة؟ حقيقة الطيف؟ لا لا تفعل هذا يا ابن آدم! اترك لنفسك بعض الوقت، لعلّى أنظر إلى نفسى من خارج الحواجز التى بنيتها على امتداد السنوات الماضية، الإطلالة من الخارج قد تساعدنى على تنظيف الباطن وترتيب رفوفه. 

أحب أن أكون إنسانًا طبيعيًا ككل الذين من حولى، هؤلاء الذى يعيشون فى فقاعة الرخاء وراحة البال، يستفيقون على صوت أباريق القهوة والملاعق التى تحرك السكر، ثم ينامون وهم يفكرون فى كيفية دفع الفواتير وسداد القروض الصغرى التى تبقيهم قيد العيش ليس إلّا، عقلى يدور بقوة ألف حصان ولا يهدأ عن التفكير أبدًا، رادار عقلى محتاج إلى الصيانة، هذا أقل شىء يمكننى فعله الآن.

لا شك أنها ستطلب مِنى إتمام القصة وستقوم بتحليل كل كلمة فى مختبر حواء لعلوم الصحة والبيولوجيا والسوسيولوجيا وجغرافيا الأفكار وما وراء الأفكار، ستقوم بتحليل كل الجمل التى نطقت بها وكذلك لحظات الصمت أيضًا، وهذا ما يقلقنى أكثر؛ «الصمت» فضّاح، ويخفى من ورائه آلاف العاهات والتناقضات والأسرار المعلنة منها والمضمرة. هههه فكرة مضحكة جدًا؛ «مختبر حواء»! ربما سأفكر لاحقًا فى كتابة رواية بهذا العنوان، من يدرى؟!.

كان المطعم قريبًا من البيت بعض الشىء، فقررا العودة مشيًا. أمسكت منال بذراعه، ثم مالت بجسدها إلى أن التصقت به، فأحست بحرارة جسمه تتسلل إلى معطفها الأحمر. التفت إليها كاتبًا ابتسامة على شفتيه، ثم نزع قبعته من على رأسه ووضعها ببطء فوق شعرها الحريرى اللامع. قبلته على وجنته ثم طلبت منه إكمال قصته. ابتسم ابتسامة خفيفة تخفى من ورائها الكثير من اللا قول والكثير من البياض الذى يحتاج إلى تحليل مخبرى ثم قال: «انتهت».

فجأة أرغمته على التوقف ودمدمت: 

«والله إنّى سأصرخ وسط الشارع إذا رفضت ذلك». 

ضحك ثم قال يحثها على التقدم: «حسنًا، لا تصرخى، سأكمل لك». 

أشعل سيجارة أخيرة ورمى بالعلبة الفارغة فى القمامة، ثم أضاف قائلًا: «بعد وفاة الحاج الحسن، وجدت نفسى فى الشارع مجددًا. قيل لى إنه مات بسكتة قلبية عندما عاد من المسجد فجرًا. بعد أيام قليلة من ذلك جمعت أغراضى الشخصية، وأخذت مبلغًا بسيطًا من الحاجة زوجته ثم اتجهت إلى محطة القطار وسط المدينة. كانت السيدة صفية تحكى لى أشياءً جميلة عن مدينة الصويرة، عرفت من خلالها أنها مدينة سياحية تشتهر بصيد السمك والموسيقى العالمية. ذلك السفر أصبح بداية قصة حب مع الإيقاعات الكناوية والبلوز والروك. صعدت إلى القطار المتجه نحو الجنوب بلا تذكرة، لأنى لم أرغب فى صرف المبلغ الصغير الذى بحوزتى. تنقلت وسط القطار من مقصورة لأخرى إلى أن وصلت إلى العربة الأخيرة. جلست قرب دورة المياه فى زاوية بعيدة عن أنظار المراقبين، لكن سوء الحظ لعب ضدى، حيث رمقنى رجل شرطة مكافحة التهريب فأطلع المراقبين على مكانى. بعد لحظات اقترب مِنى أحدهم، متقدم فى السن يوشك على التقاعد، طلب مِنى التذكرة فأخبرته بعدم توفرى على ثمنها. توقعت أنه سيضربنى ويجرنى إلى خارج القطار، كما سبق وعلمت من بعض الأصدقاء. لكنه على العكس تصرف بلطف وكلّمنى بنبرة هادئة: «إلى أين؟» رفعت عينىّ فى وجهه ثم أجبت: «الصويرة سيدى».

من رواية: سيدات العزيز