رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ريم

سوزان كمال
سوزان كمال

كانت جميلة، حنونة، وكنت حزينًا، جائعًا، مشردًا، وقلقًا.

أريد أن أهرب منها، لكن عينيها الصافيتين ظلتا تجذبانى فأذوب فى عمقهما، فى أبعد نقطة، مستسلمًا لنقائهما، ملقيًا كل همومى فى واحتهما، مبتعدًا عن الكون كله.

وحدها ريم تستطيع أن تنزع النور من أنياب الظلام، تستولد الحياة من رحى الموت.

فى حضرة ريم تجد نفسك على الحافة بين الواقع والخيال، ورويدًا رويدًا تسحبك إلى عالمها، فلا حروب، ولا جوع، ولا خوف، ولا ألم، ولا ظلم.

كنت أتأملها متعجبًا كيف تحيل برد الغربة دفئًا؟!

ريم والخيال صديقان.. أعرفها حين تلمع عيناها، تتسعان، وتكسو نبرات صوتها بحَّة أعشقها. وقتها أعرف أن الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال قد سقطت، تلاشت تمامًا أمام سطوة أحلام ريم، وأننى بصدد التحليق فى فضاءات براءتها المدهشة.

تحكى ريم فتسيل الأماكن، تختلط الأزمان، نعود ونسود. تجذبنى من يدى لزيارة صباحية إلى القدس، نجلس على مقاعده، نتلمس حيطان الحائط الغربى، نصلى فى المسجد الأقصى، تلوح بأصابعها أمام عينيها وهى تصف لى لُمعة قبة الصخرة الذهبية تحت أشعة الشمس.

نلهث ونحن نصعد جبل الزيتون، وتتهكم على ضعف لياقتى، تبتهل فى الحرم القدسى وتتمتم هامسة لمريم بكلمات، وهى تقودنى إلى كنيسة القيامة، وتهم بالجرى من أجل البحث عن مخطوطة تركها ستيفان ميلوفيتس. تجلس وقد هدأ صوتها، تتذكر تطوافنا فى البلدة القديمة، ثم حيفا، يافا، بيت لحم، الخليل، ونابلس. تمسد شعرى بيدها وهى تهمس: اِحْكِ لى عن نابلس، أحكى وينقلب الخيال يا ريم إلى حقيقة مباغتة، إلى دموعك ونشيجك.

كنتُ نحيلًا ووحيدًا فى القاهرة الواسعة، الضيقة كثقب إبرة. طالب بكلية الطب قد ترك نابلس للتو فى ليل ابتلع كل صباح وفرض قسوته على الحياة. أحمل حقيبتى وكتبى وذاكرة مثقلة بالذكريات.

وكانت ريم بملابس الحداد السوداء وجهها يقطر حزنًا نبيلًا، هادئًا. حتى فى حزنكِ رقراقة كالمياه يا ريم!

يومها جلستِ بجوارى بكامل أجنحتك، وطيورك المنطلقات. ربما قادكِ حنانُك إلى غريب لم تلتئم جراحه. يومها سألتِنى عنى بطفولتك الغضة وأجبتُكِ، وسألتُكِ عنكِ بملء صحرائى وأجبتِنى. كان موت أبيكِ حدثَ حياتك الأكبر وكانت فلسطينيتى وجعى. يومها مددتِ يدك فصرتِ تميمتى، ملتُ برأسى على كتفك لا أدرى كيف ولا كم من الوقت مر؟! ومن يومها صرتُ اثنين يا ريم، لم أعد ذلك الوحيد الذى فقد الثقة بكل جحور الأرض وحددَ لنفسه هدفًا واحدًا وأغلق بوابة العالم على كل ما سواه. كنتُ كلما تسللتْ إلىّ جراحى صعدتُ تلالك العالية واختبأت. طفلان نسكن حياة جديدة، مزهرية من عطرك، نتسلق الأشجار، نرمى بعضنا بالنور والأمانى، نضحك فلا أشعر أن ضحكاتى تخون آلامى. تزداد بحة صوتك وتتحول عاديتى إلى وسامة.

يومها قلتُ لكِ: لا أعرف أين سأقضى ليلتى يا ريم. رحل أصدقاء السكن ولم يكن بمقدرتى احتمال دفع الأجرة كاملة. شردتِ قليلًا، ثم أشرتِ لى بنعومتكِ المتحمسة: هيا.

صعدنا سُلمَ البيت القديم فى الحارة الضيقة، طرقتِ الباب بينما تهدهدين قطة ناعسة أمامه، فتحتْ البابَ لنا سيدة، صورة منك يا ريم لكن هالتين سوداوين تحت عينيها وعلامات زمن فوق جبينها تقول إنها أمك.

كانت مثلكِ رقيقة كحكاية ليل شتوى طويل ينتصر فيها الصباح.

وضعتْ الطعام وأرغفة الخبز على منضدة مغطاة بمفرش وردى قديم.

وبدأتِ تحلمين يا ريم، تتحدثين عن حجرتين، فهمتُ أنهما فى سطوح البيت. تردد أمك بخجل: «مش قد المقام يا بنتى». تصممين كعادتك، تعرفين أنك تمتلكين سحرًا سوف يجعلهما «قد المقام».

نصعد بعد غداء أمك الطيب. وأراكِ من جديد بكامل نشاطك، وصوتك، وإلهامك. أتأملكِ وأنت تزيلين أتربة الجدران وروحى، أسرق النظرات، أتمتم فى نفسى: عظيمة أنت بوجدانى يا ريما. عظيمة رفيقة وحبيبة وسمسارة حُجرات فوق السطوح!!

صرنا جارين، أى سعادة تلك التى لم تكن بالحسبان؟!

تصعدين لى بالطعام ودلالك وكل ما فى الحب من وجد. وقد أيقظتِ كل جوعى، كل رغباتى وافتقادى واشتياقى. لا أعرف هل أحبك أكثر؟ وهل هناك أكثر؟ أم أعتذر لأنك دائمًا ما تمنحين؟ تتطلعين إلىَّ مستنكرة كأنكِ قرأتِ ما يمور بروحى: ألا تعلم أنك طفلى؟ طفلى المدلل؟!

أى طفولة يا حبيبتى؟ قد نهشوها، كانت كلمة طفولة وحدها كافيةً لأن تجعلنى أغلق الباب خلفكِ وأستسلم لدوامة بكاء كبيرة.

ذات صباح قررتُ أن أشترى هدية لكِ من المبلغ القليل الذى يرسله لى أبى. احترتُ، فسألتكُِ، أجبتِ مبتهجة: ديوان شعر، أريد ديوان شعر.

انطلقنا فى شوارع وسط القاهرة. قبلتُها نهارًا وسط ضجيج الناس فى الشوارع المزدحمة، بدهشة صرختْ: كيف تقطف الأفكار من ذهنى؟!

ضحكنا وسرنا متشابكى الأصابع، يملأ كلانا الآخر بنظراته والمحبة، وتتوهج الحياة فى داخلى كما لم تتوهج أبدًا. يذوب الأسى فى الفرح وتتحول الأمنيات المستحيلة معكِ إلى هينات، سهلات المنال. 

نمشى على كوبرى قصر النيل، يحرك الهواء خصلات شعرك فتتساقط منه نجومك الملونة. تحدقين بوجهى، تسألين: هل تحبنى؟ 

أجيب بصوت متقطع: أحبكِ بكل طاقة الحب على الحب، لم أحب فى حياتى غيرك يا ريم. تخفضين عينيكِ. أضع أصابعى تحت ذقنك، أرفع وجهك، تغمضين عينيك، أرجوكِ أن تفتحيهما؛ لتستيقظ الأسماك وتنتشى وردات النيل، ليسطع الضوء وأرى الشمس والحكايات والموسيقى والشجر والشعر والصفاء والوطن الحر. تبتسمين بخجل فيصير نهارنا وردًا يا ريم. تقترب منك طفلة تحمل الزهور، تشترين منها زهرتين. تفرحين كطفلة وأنتِ تضعين إحداهما فى شعرك وتسألين هنا أم هنا؟ أقول: هنا. لا تكترثين، تضعيها كيفما حلا لكِ. تفتحين ديوان الشعر وتضعين الزهرة الثانية به. أقول: ستموت مختنقة. تمسكين يدى، تعيدين شبك الأصابع، تنظرين إلى النيل بسحرك الآسر وتتمتمين: لا.. لن تموت إلا إذا ماتت الحياة.

أدخلتُ أصابعى فى شعرك، فأغمضتِ عينيكِ، ومِلتِ برأسكِ على صدرى دون مبالاة بأحد وظللتُ أنا واقفًا لا أتحرك، أشعر أنى أحرسك، أحرس نجماتك وأحلامك وتميمتك على صدرى. تغرب الشمس علينا، يقبل الليل علينا.. آه لو يتوقف الزمن قليلًا. ترفعين رأسك، تزيحين خصلات شعرك، أراك مشرقة كفجر يتنفس، نهار ينحدر مع النهر، شامة على وجه الحياة.

تسألين: هل يمكن أن نفترق، أن تتركنى؟

أجيبك: إذا أردتِ أن نفترق رُدِّى علىّ قلبى أولًا. تبتسمين وأردد قول امرؤ القيس: 

وإن تكُ قد ساءتكِ منى خليقةٌ

فسُلّى ثيابى من ثيابكِ تَنسُلِ..

تضحكين فأزيد:

وما ذرفتْ عيناكِ إلّا لتضربى

بسهميكِ فى أعشار قلب مُقتَّلِ

تمر سنواتُ فيضكِ يا ريم، سنوات الغربة التى نسجتِها وطنًا.

نقضى سنة الامتياز معًا وسط المرضى البسطاء، أرى دموعك التى تحاولين إخفاءها. أنظر إليكِ من خلف الزجاج وأنتِ تفردين ذراعك، تمنحين دمك عطايا لمن يتجمعون هنا من شتى أنحاء الفقر والعجز وقِصر ذات اليد.

لَكَم أحبكِ يا ريمى!

تمر السنوات وتكون عودتى إلى نابلس قدرًا وواجبًا لا مفر منه.

آه يا غربتى الدائمة!

أصمتُ، يطول صمتى. تبتسمين ابتسامة أُم تعرف الجانب الخفى من كل أفكار أطفالها. تمسكين يدى بحنو فتتساقط زهورك الخضراء أمامى: سأسافر معك.

أترنح مذهولًا: هل تمزحين؟! وأمك، لمن تتركينها، والحرب، و.. و.. و..

وقبل أن أكمل كلامى تضعين يدكِ على فمى.

هنا، كلنا أهل. الحارة كلها سترعى أمى. سنعيش فى نابلس معًا وننجب أطفالًا ونعمل ونداوى.

صرختُ: توقفى عن أحلامك يا ريم، اتركينى؛ ربما أستسلم لراحة اليأس، أرجوكِ.. يومها اقتربتِ منى، لمستِ تعويذتك فى صدرى، فقبلتُ يا ريم. ودَّعتْنا حارتُكِ الطيبة كلها. تحملنا مشقة السفر ونقاط التفتيش البغيضة، أغضب إذ يلمسون ملابسك، قلبى يتمزق غيظًا وأنت تربتين بكفك الندىّ على خاطرى.

وصلنا نابلس، لم يدهشنى أن أَحبكِ كل من رآك. وأن أصبح لك عائلة وأصدقاء وأحبة خلال أيام. وعشنا يا ريم، عشنا كل متعة الحب ولذته ونشواته. كنتُ سعيدًا أننى معكِ، أصبحتُ اثنين وصرتُ سعيدًا يوم أصبحنا واحدًا. جسد واحد وقد حملتِ بين أحشائك ثمرة حبنا يا ريم.

هل كان ضروريًا أن تدوى صافرات الحرب؟ أن يعم الظلام والبرد والخوف؟، أن يصفعنى الألم الدفين، يردنى إلى حقيقة أن السعادة ضيف خفيف؟ ألا أموت ولا أحيا يا ريم؟. وقتها كنتِ تغالبين الصراخ، تكتمين آلام مخاضك. وقتها خلتْ كل أسرّة المستشفى من مكان لك. وأنا أصرخ كالغجرى، أسابق الزمن المرعب بين حدىّ الموت والحياة: ريم ستموت، أصيح ولا أحد يسمع إلا دوى آلة الحرب. أستغيث وتنغلق كل أبواب العالم فى وجهى وتفتح الحرب أبوابها..

أنظر فى عينيك، أسمع صوت ابنتنا، تنزفين، تنتفضين، ووجهك الشاحب يحاول أن يبتسم. أتوسل إليكِ: لا تموتى.

تقولين بوهن: لن أموت إلا إذا ماتت الحياة.

أحمل طفلتى إلى بيتنا، أكبر وتكبر معى.

أحمل فى يدى ديوان الشعر، أفتح صفحته التى تسكنها وردة قد صبغت السطور بحمرتها. أرفع الوردة وأقرأ يا ريم، أقرأ وأراكِ، أقرأ وأرى حياتنا. أقرأ وألمس تعويذتك فى صدرى وأتلمس دفأها. أغمض عينى أسمع صوت عطرك، تحملنى مياه النهر حانية يا ريم نحوك، نحو الحياة.