رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وإيران وخلق واقع إقليمى جديد

مرت العلاقات المصرية الإيرانية بالعديد من التجاذبات السياسية على مدار عقود طويلة، حاولت خلالها مصر أن تحافظ على التوازن الإقليمي لدول المنطقة بشكل عام، أمام النفوذ الإيراني المتزايد، خاصة بعد الثورة الإسلامية عام 1979، مع الحفاظ على قدر كبير من المرونة السياسية التي تراعي مصالح الدولة المصرية في المقام الأول.

تلك المرونة السياسية التي افتقدها النظام الإيراني في بداياته الثورية، واحتاج إلى عقود طويلة من المغامرات السياسية والعسكرية، حتى يصل إلى ما نراه الأن من مراجعة كاملة لأجندة العلاقات الخارجية، خاصة موقف النظام الإيراني من مصر، الذي اتسم في بدايته بمنافسة على الدور الدولي والإقليمي، منافسة وصلت في بعض مراحلها إلى العداء، وصولًا في اللحظة الراهنة إلى الإدراك الكامل للدور المصري، ومكانة الدولة المصرية القوية في ظل ظرف تاريخي خطير.

مما حدا بإيران أن تبدأ صفحة جديدة في العلاقات مع مصر، بدأت منذ عدة سنوات خاصة في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، فحاولت جاهدة بث رسائل إعلامية وسياسية تتسم بالإيجابية، بداية من رأس السلطة في الدولة الإيرانية، مرشد الثورة "آية الله علي خامنئي"، الذي أشاد مرارًا بالدور المصري في العديد من الملفات الإقليمية، وصولًا للقاء الذي جمع الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في القمة العربية الإسلامية في نوفمبر الماضي، والذي أشاد به الإعلام الإيراني بشكل كبير، واعتبره قفزة للأمام، لتطوير العلاقات مع مصر، وكذلك تهنئة الرئيس الإيراني للرئيس عبدالفتاح السيسي بنجاحه في الانتخابات الرئاسية، ومناقشة العديد من الملفات الشائكة على رأسها أزمة الحرب في غزة.. كما أتت المباحثات الأخيرة بين وزيري الخارجية سامح شكري وحسين أمير عبداللهيان، في نيويورك، كنقطة جديدة في إطار تفاهمات سياسية، ووضع أُطر جديدة لخارطة طريق بين مصر وإيران.
فبتحليل دقيق للمعطيات الدولية والإقليمية، هناك العديد من المساحات التي قد تساعد في إعادة ترسيم الواقع السياسي بين البلدين سنحاول إجمالها في التالي:
أولًا: إيران دولة ذات نفوذ إقليمي لا يستهان به، ولها أذرع سياسية وعسكرية عديدة في الجوار الإقليمي، بداية بحزب الله في لبنان، و«الحوثيون في اليمن»، بالإضافة لدعمها التاريخي لحركة حماس في فلسطين، وتواجدها القوي في سوريا والعراق، وكذلك نفوذها الممتد إلى الخليج العربي بشكل عام. ولكن حتى يكتمل كل ذلك النفوذ، لا بد أن تضع دور مصر الإقليمي في المعادلة السياسية، فمصر الآن لها مساحات نفوذها القوي في العديد من الملفات المهمة، على رأسها بالطبع دورها في أزمة غزة، وقدرتها على مخاطبة كل الأطراف والحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن، والحيلولة دون الدخول في صراعات دموية لا طائل من ورائها سوى تلبية أطماع الكيان الصهيوني المحتل، فرغم علاقات إيران بحماس وكتائب القسام، ولكنها دون الدور المصري لن تستطيع أن يكون لها نفوذ حقيقي في أزمة غزة أو القضية الفسطينية برمتها.
ثانيًا: الخطر الذي يمثله الحوثيون في البحر الأحمر، فرغم الدور المصري القوي للحفاظ على خطوط الملاحة البحرية من مضيق باب المندب وبحر العرب، وصولًا لحماية المصالح المصرية في قناة السويس، ورغم محاولة الحوثي أن يعلن دائمًا أن مهاجمته للسفن في البحر الأحمر، تنحصر فقط في السفن المتجهة إلى إسرائيل، وأنه على علاقات جيدة مع مصر، ولا يحاول الإضرار بمصالحها، ورغم نفي إيران الدائم بدعمها للحوثيين في أزمة القرصنة على السفن التجارية، إلا أن الدور الإيراني ما زال هو اللاعب الأصيل في تلك الأزمة، فمساحات التفاهم بين مصر وإيران في ذلك الملف له أهمية قصوى في تحديد أولوية السياسية الخارجية لكلا البلدين.
ثالثًا: الموقف من إسرائيل خاصة في الآونة الأخيرة، حقق العديد من مساحات التفاهم بين الدولتين، فالموقف المصري القوي والمعلن من رأس الدولة المصرية المتمثلة في رئيس الجمهورية، ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، أو محاولات دولة الاحتلال تصفية القضية الفلسطينية بمؤامرات التهجير إلى سيناء، أتى متضامنًا مع الموقف الإيراني من نفس القضية. فالرئيس الإيراني وكذلك المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وصولًا لخطباء الجمعة في إيران خاصة آیات‌ الله سید محمد سعیدی خطيب الجمعة في مدينة قم (وهو منصب مهم للغاية في إطار الدولة الإيرانية)، جميعهم أشادوا بالرئيس المصري، والدور الذي تمارسه الدولة المصرية ضد محاولات تصفية القضية الفلسطينية، فرغم الخلاف السياسي القديم بين إيران ومصر في تناول الموقف من إسرائيل، إلا أن الأزمة الأخيرة قاربت بين وجهات النظر بشكل عام.
رابعًا: كل من إيران ومصر أعضاء في تجمع "البريكس"، وهو التجمع الاقتصادي الأهم خلال العقود القادمة. وفي ظل التغيرات الاقتصادية التي تُعيد صياغة العالم، ومحاولات الخروج من الهيمنة الاقتصادية الأمريكية أو الغربية بشكل عام أصبح لزامًا على إيران أن تصل إلى تفاهمات سياسية مع مصر في محاولة للخروج من العقوبات الاقتصادية التي تحاصرها منذ عقود، فمصر هي بوابة الخروج الملكية لإيران للتحرر من لعنة العقوبات واقتصاد الظل، والعزلة السياسية والاقتصادية.. فإيران تحاول أن تقدم لمصر العديد من الشراكات الاقتصادية الكبرى، لتكتسب الدولة الإيرانية مشروعية اقتصادية جديدة في ظل الدولة المصرية. كما أنه من غير المنطقي أن دولتين بحجم مصر وإيران، يشكلان وجودًا ملحوظًا في تجمع البريكس، دون الوصول للحد الأدنى من التفاهمات السياسية.
خامسًا: ملف دول الخليج العربي من أهم الملفات الخلافية بين مصر وإيران، خاصة في ظل موقف مصر الداعم لدول الخليج خاصة السعودية والإمارات، ضد المحاولات الإيرانية فرض الهيمنة أو النفوذ على الخليج العربي بشكل عام، فمصر شكلت خلال الفترة الأخيرة حجر عثرة سياسي وعسكري أمام التهديد الإيراني للخليج العربي. ولكن ومع محاولات إيران لإعادة صياغة علاقتها الخارجية بدول الخليج العربي، خاصة المملكة السعودية، ومحاولة تجاوز أزمات الهمينة والنفوذ، ومحاولة الوصول لشراكة فاعلة بين الطرفين، أصبح الدور المصري هو الأهم في سياق التفاهمات السياسية بين إيران والخليج العربي.
خلاصة القول، فإن التطبيع التي تلوح بشائرة في الأفق بين مصر وإيران، سوف يسهم في إعادة صياغة كاملة لمجمل التحالفات العسكرية والسياسية في المنطقة بشكل عام، وسيضع العديد من اللاعبين الصغار على الساحة الإقليمية في حجمهم الطبيعي، فرغم مساحات التفاهم بين البلدين في الوقت الراهن، ولكنه تفاهم يعتمد في الأساس على الوعي الإيراني لطبيعة الدولة المصرية في المرحلة الراهنة، وهي طبيعة تشكلت على حدود دولة قوية لها مقدساتها الجيوسياسية ولن تتنازل عنها مطلقًا.