رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الغرب الذى نكره.. الغرب الذى نحب

خطر لى أنه حتى الكراهية تحتاج إلى الوعى. خطر لى ذلك عندما طالعت ما وضعته الزميلة الصحفية وفاء نبيل على صفحتها فى «فيسبوك» من أن شخصًا كتب لها يقول: «فإذا كنتم تكرهون الغرب إلى هذه الدرجة، فألقوا إذن بالموبايلات التى فى أياديكم ولا تستخدموها». ويُفهم من كلام ذلك الشخص أن علينا أن نقاطع الغرب جملة وتفصيلًا ما دمنا نقف ضد الغرب ولا نتقبل مواقفه السياسية والعسكرية العدائية تجاه بلادنا، وأبرز مثال لها الموقف مما يجرى فى غزة. 

وأذكر بهذا الصدد أنه فى ٧ يناير ٢٠١٥ وقع هجوم إرهابى على صحيفة «شارلى إبدو» راح ضحيته ١٧ قتيلًا، فأعقب ذلك فى ١١ يناير مسيرة دولية فى باريس للتنديد بالإرهاب، شارك فيها قادة خمسين بلدًا من مختلف أنحاء العالم. هكذا وجدوا أن سبعة عشر قتيلًا جديرون باحتشاد الزعماء، أما حين يروح شهيدًا فى غزة نحو عشرين ألفًا، ٧٠ بالمئة منهم أطفال ونساء، ويصاب نحو خمسين ألفًا، فإن الغرب يلزم الصمت.

هذا هو الغرب الذى نكرهه، الغرب الذى يمد الكيان العدوانى بالسلاح والمال والدعم فى الهيئات الدولية. الغرب الذى نكرهه هو ذلك الذى جاء من بعيد ليحتل الجزائر فى ١٨٣٠، ومصر فى ١٨٨٢، والعراق فى ١٩١٤، وغيرها من الدول العربية، ثم ترك الكيان الصهيونى مع غروب شمسه ليكون ذراعًا له فى المنطقة يضرب بها من يشاء. هذا هو الغرب الذى نكرهه، الغرب الذى ألقى على هيروشيما وناجازاكى أول قنابل ذرية فى تاريخ البشرية، وسوف نظل نكرهه، لكن الكراهية كما سبق تحتاج إلى وعى، لأن هناك داخل ذلك الغرب العدوانى الرأسمالى غربًا آخر، نطق باسمه الكاتب العظيم برنارد شو، حين أدان بشدة مذبحة دنشواى فى مصر، وينطق باسمه جابرييل جارسيا ماركيز فى أبريل عام ٢٠٠٢ بعد مذبحة جنين حين كتب «ليل الضمير البشرى» دفاعًا عن الشعب الفلسطينى. ونحن نحب الغرب الذى يمثله الفيلسوف الإيطالى جان فانتيمو الذى صرّح بأن جرائم إسرائيل فى غزة تفوق ما ارتكبه هتلر ضد البشرية فى حروبه مجتمعة. ونحن نحب الغرب الذى طلع منه ديكنز، وموتسارت، وبيتهوفن، وأنطون تشيخوف، وساراماجو، وغيرهم من ضمائر البشرية. 

أما عن استخدام ثمار العلم التى ظهرت فى الغرب، فإن ذلك من حقنا تمامًا، لأنه ما من فكرة أو اختراع فى العالم إلا وشاركت فيه شعوب العالم كلها. ولولا العلوم والاكتشافات السابقة التى ساهمنا فيها ما وصل الغرب إلى ما يخترعه، ويكفى أن نتذكر الزهراوى الذى تعمق فى جراحة العظام والطب، ووصف أكثر من ثلاثمائة مرض وابتكر أدوات فحص الأذن الداخلية، وأن نتذكر أبوبكر الرازى الذى صنف الأعصاب، وابن سينا الطبيب الفيلسوف، وابن الهيثم الذى ترك أكثر من ٢٠٠ كتاب فى الرياضيات وعلوم الفلك والبصريات وغيرها، وأيضًا العالم المصرى على مصطفى مشرفة الذى قال عنه صاحب نظرية النسبية أينشتين: «كنت أتابع أبحاثه بكل ثقة.. إنه من أعظم علماء الطبيعة فى العالم». ذلك أنه ما من شىء فى العالم اخترعه فرد وحده، أو دولة بمفردها، فكل اختراع فى العلم، بل فى الأدب، هو ثمرة احتشاد كل فروع العلم والفن التى تتفجر فى نقطة ما. 

نحن لا نقاطع المخترعات العلمية الغربية، ولا أدواتهم الطبية، هى حقنا، لأنها ثمرة عمل وكفاح البشرية التى تستكمل الاختراعات والأعمال الفنية بأنهار وأقمار كثيرة. نعم، تحتاج الكراهية إلى الوعى بالحب، وبأنه لا يجوز دمج طرفين متناقضين فى جسم واحد: النظم الحاكمة فى الغرب الاستعمارى، وضمائر الشعوب.