رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إعادة إنتاج الجحيم

 

 

لا يمكن التعامل مع رغبة إسرائيل فى البقاء بقطاع غزة سوى أنها إعادة إنتاج للجحيم، سواء الذى عانى منه الإسرائيليون فى ٧ أكتوبر، أو الذى يعانى منه أهالى غزة الآن.. الفظائع التى ترتكبها إسرائيل تضغط على أعصاب الجميع، والمفارقة أن إسرائيل تعترف بأرقام ضحايا تفوق الأرقام التى يعلنها الجانب الفلسطينى.. فبالأمس قالت «يديعوت أحرونوت» إن عدد الضحايا بلغ عشرين ألف ضحية، فى حين تقول مصادر فلسطينية إن عدد الشهداء عشرة آلاف شهيد، منهم ما يقرب من أربعة آلاف طفل.. والمفارقة المحزنة أن الرئيس الأمريكى كان قد تطوع باتهام الفلسطينيين بالكذب والمبالغة فى عدد الضحايا؛ لترد عليه «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية وتوضح كم هو غائب عن الواقع.. استمرار العمليات الوحشية ضد أهالى غزة يمثل ضغطًا على الجميع وعلى كل أصحاب الضمائر الحية فى العالم، فضلًا عن الشعوب العربية.. بالأمس نشرت هيئة الإذاعة البريطانية تقريرًا عن رفض عدد من أهم الفلاسفة اليهود فى العالم ممارسات إسرائيل فى غزة.. فضلًا عن مظاهرة ضخمة قام بها يهود أمريكا لإدانة المجازر فى غزة وتمييز أنفسهم عن السياسات المتطرفة والعنصرية للمجموعات الحاكمة فى تل أبيب.. على مستوى الداخل العربى يشكل استمرار الغارات الإسرائيلية ضغطًا على صانع القرار، ورغم ثقة الناس فى السياسات الوطنية للقادة؛ إلا أن حجم المجازر يشكل ضغطًا على الجميع ويجعل من الصعب إدانة مشاعر التعاطف مع الشعب الفلسطينى، أو حتى الرغبة فى التصعيد من قطاعات الشباب الأصغر سنًا.. سبب استمرار الغارات هو أن إسرائيل لم تحقق نصرًا يذكر حتى الآن على مستوى تدمير البنية الأساسية لحماس، أو حتى على مستوى اغتيال «يحيى السنوار» قائد حماس فى غزة.. يدعى الأمريكيون أنهم يضغطون على إسرائيل لإيقاف الغارات، ولكن أسلحتهم تتدفق على الشرق الأوسط لمزيد من تعزيز أمن إسرائيل وإرهاب الأطراف التى تخشى منها الدولة العبرية.. لأول مرة تتحدث الصحافة الأمريكية عن قاعدة عسكرية أمريكية فى إسرائيل على بعد عدة كيلومترات من الحدود المصرية، بينما وصلت أكبر غواصة نووية فى أمريكا وربما فى العالم لتستقر فى مياه البحر الأحمر كرسالة دعم معلنة لإسرائيل.. الفشل الإسرائيلى يدفع نتنياهو للهروب إلى الأمام، حيث أعلن عن أن إسرائيل ستسيطر على قطاع غزة أمنيًا بعد انتهاء الغارات.. يتسق هذا التصور مع الوهم الإسرائيلى بإعادة توطين أهل غزة فى عدة دول وتصفية القضية الفلسطينية.. بنسبة كبيرة جدًا فإن تصور نتنياهو سيفشل ولن تنجح مخططات إعادة توطين الغزاوية خارج فلسطين لأسباب مختلفة.. فى هذه الحالة فإن سيطرة إسرائيل على قطاع غزة لن تكون سوى إعادة إنتاج للجحيم الذى يعانى منه الجميع هناك منذ عقود.. لو كانت إسرائيل تحسن السيطرة على غزة لما انسحبت منها من طرف واحد فى عام ٢٠٠٥ فى عهد رئيس الوزراء أرئيل شارون المشهور باسم «جزار إسرائيل» تخطئ إسرائيل للمرة المليون إذا تخيلت أن مشكلتها تنتهى باغتيال السنوار أو حتى كل قيادات حماس.. فقد أزعج فدائيو غزة إسرائيل لأقصى درجة فى عام ١٩٥٥ وقبل ظهور حماس بعشرات السنين، وردت عليهم بمذبحة صغيرة راح ضحيتها خمسون فدائيًا من أهل غزة.. وقاوم الفلسطينيون إسرائيل وهم أعضاء فى فتح، وقاوموها وهم أعضاء فى الجبهة الشعبية ثم وهم أعضاء فى حماس والجهاد.. ولو أبيدت هذه التنظيمات فستظهر تنظيمات أخرى طالما القضية الفلسطينية لم تحل.. فى مقابل هذا التصور الإسرائيلى الذى لا يعنى سوى إعادة إنتاج الجحيم، هناك تصور آخر بوجود قيادة مشتركة من الفصائل الفلسطينية تتولى تهدئة الأوضاع فى غزة مع الدخول فى مفاوضات جادة تقود للحصول على مكاسب سياسية حقيقية تصاحبها تنمية ذات مردود على حياة أهالى غزة.. وفق هذه الصيغة فقط وبرعاية الدول العربية الكبرى يمكن للأوضاع أن تسير للأمام.. أما عودة إسرائيل للوجود فى غزة فهو أمر سيعتبره أهلها نكوصًا للوراء وسيعيدون مقاومته بكل قوة لإفشاله، وهو ما يعنى إعادة إنتاج الجحيم مرة أخرى.. وليس فرض الأمن كما تتوهم إسرائيل.. تقول القاعدة العلمية إن تكرار نفس الفعل مع انتظار نتيجة مختلفة فى كل مرة هو دليل على الغباء أو هو التعريف العلمى للغباء، وهو ما تفعله إسرائيل بشكل دائم منذ الستينيات حتى الآن، ولذلك ليس عليها أن تتوقع نتيجة مختلفة.