رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اسلمى يا مصر

فى أثناء ثورة ١٩١٩ كتب الأديب مصطفى صادق الرافعى نشيد «اسلمى يا مصر إننى الفدا.. ذى يدى إن مدت الدنيا يدا»، لحّن الكلمات الموسيقار صفر على، ودخلت الألحان ذاكرة المصريين الجمعية لتظل حية حتى الآن.. التوترات التى تحيط بمصر من كل الجهات جعلتنى أسترجع كلمات النشيد؛ طالبًا لوطنى السلامة من كل تلك المؤامرات والشرور التى تحيط بنا.. بحجم قوة مصر بقدر رغبة كل طرف فى توريطها لجانبه أو الضغط عليها لمساعدته فى تحقيق أهدافه.. لم تتعرض مصر لمثل هذه التحديات الحدودية والإقليمية حتى وهى تخوض أكبر صراع عسكرى فى تاريخها فى أكتوبر ١٩٧٣.. لو نظرنا لحدود مصر الأربعة فى صباح ٦ أكتوبر ١٩٧٣، لوجدنا أن الأوضاع الجيوستراتيجية والإقليمية كانت فى مصلحة مصر مئات أضعاف ما هى عليه الآن.. ففى الجنوب حيث السودان كان حدودًا مستقرة، وبلدًا يشكل عمقًا استراتيجيًا لمصر ورئيسًا محبًا لمصر وذا ولاء لها، وفى الغرب وضع مشابه.. شعب عروبى ونظام يحب مصر رغم عيوبه، وبلد يمثل عمقًا استراتيجيًا وداعمًا لمصر، وعلى جبهة العدو الإسرائيلى كانت مطامع إسرائيل فى مصر وقتها أقل من مطامعها الآن.. ورغم احتلال إسرائيل سيناء، فإنها كانت على استعداد للانسحاب منها مقابل الاعتراف بها كدولة.. وكان الرئيس عبدالناصر فى اجتماعات مجلس الوزراء عقب النكسة يقول هذا.. كان يقول إسرائيل ستترك سيناء ولكن المشكلة فى الضفة الغربية.. وقد انسحبت إسرائيل من سيناء بالكامل فعلًا وفق اتفاقات كامب ديفيد التى أبرمها السادات، الآن هناك مطامع إسرائيلية معلنة فى جزء من شمال سيناء يُستخدم كوطن بديل للفلسطينيين لتصفية القضية الفلسطينية، وهى فكرة لم تكن موجودة فى السبعينيات من القرن الماضى.. حتى على المستوى الفلسطينى لا يمكن المقارنة بين زعامة ياسر عرفات التاريخية وعلاقته بمصر، وبين ممارسات فصيل مثل حماس وتحالفاته المتشعبة وتصرفاته المزعجة والمتناقضة، التى تؤكد أنه لا يمكن أن يكون محل ثقة طوال الوقت.. الآن نواجه حدودًا ملتهبة وملغومة فى الغرب والجنوب والشمال الشرقى والجنوب الشرقى، ومعها ضغوط اقتصادية مرتبة ومصنوعة لتخدم الضغوط السياسية وتتكامل معها وتعززها.. لا يحتاج الأمر إلى كثير من الجهد لندرك أن المنطقة تتحول فى هذه الأيام لمسرح جديد للحرب العالمية الثالثة.. فالاشتباكات ليست فقط فى غزة، ولكن هناك مناورات وتحرشات وشرارة مرشحة للاشتعال فى مواقع مواجهة مثل العراق وسوريا وجنوب لبنان وربما فى البحر الأحمر، حيث باب المندب واليمن.. وفى وسط كل هذه الفوضى وتطاحن المصالح، فإن مصر مطالبة باتخاذ مواقف تراعى عدة تناقضات متباينة ومتضاربة.. منها الموازنة بين موقفها الداعم لفلسطين تاريخيًا وبين عدم الانجرار لحرب يفرح بها العدو قبل الصديق، وتستخدم ذريعة لضرب تجربة النمو المصرى.. ومنها الموازنة بين عواطف الشعب المصرى الصادقة تجاه إخوته فى غزة وبين حقائق ومعلومات عن الفصائل هناك لا تبوح بها مصر وفق قاعدة ليس كل ما يعرف يقال؛ مراعاة لاعتبارات كثيرة ومتعددة، ومن هذه الضغوط التى تتعرض لها مصر أيضًا ولم تكن موجودة منذ نصف قرن غياب قطب دولى ثانٍ مثل الاتحاد السوفيتى كان رغم كل شىء «رمانة ميزان» وعامل توازن، وكان وجوده يردع أمريكا وإسرائيل عن التمادى فى غيهما، ويجعل للصراع ضوابط رغم حالة الحرب والعداء.. الآن تتسم سياسة روسيا بغموض ما، ومناورات على مستويات متعددة، وظهور ساطع ثم اختفاء مريب.. والأكيد أن أى موقف تتخذه ضد العدوان الإسرائيلى والدعم الأمريكى له لا يستند إلى أساس مبدئى بقدر ما يهدف لخدمة المصالح الروسية والمناورة حولها.. وهذا أيضًا من عوامل ضبابية المشهد وعدم وضوحه بدرجة ما.. يضاف إلى كل هذه الضغوط وجود طابور خامس مصرى يتمثل فى جماعة الإخوان المسلمين ولجانها الإعلامية فى الخارج يضاف لها بعض المرتزقة وعملاء المخابرات الأجنبية الذين يتم تقديمهم على أنهم إعلاميون ومقدمو برامج، أو أساتذة فى جامعات أمريكية وغربية.. يلعب هؤلاء دور الطابور الخامس حرفيًا وكما يقول الكتاب، سواء عبر التسخين حيث تجب التهدئة، أو عبر تحطيم المعنويات حين يجب شحذ الهمم، أو عبر نشر المعلومات المغلوطة بشكل متعمد، بينما المعلومات الصحيحة تفسر نفسها بنفسها، وبكل تأكيد فإن ذلك النشر الجماعى ليس صدفة، وإنما هو دليل واضح وبديهى على عمالة هؤلاء وائتمارهم بأمر من يسعى لخراب هذا البلد، ولا شك أن الطابور الخامس يسعى لاستغلال حالة التوتر والشد فى الشارع المصرى لشحن الرأى العام والضغط على صانع القرار من خلال الشارع.. وإذا كانت مصر من خلال الطبيعة الإنسانية والالتزام بقواعد الأصول قد ألغت كل الأنشطة تضامنًا مع غزة، فقد كان لذلك أثر جانبى يستغله المتآمرون وهو تصاعد التوتر وزيادة شحن الناس وشعور المصريين بالحزن البالغ على إخوانهم فى غزة.. لكن الحقيقة أن هذا الصراع سيطول.. وأننا يجب أن نهوّن على أبناء شعبنا من المصريين، وأننا أيضًا يجب أن نقلل معدلات التوتر لدى المواطن، وأن ننفس عن مشاعر الحزن.. وأنه إذا كانت الظروف قد حتمت إلغاء مهرجانى الموسيقى والسينما، فإن علينا التفكير فى صيغة تجعل الحياة تستمر مع إبداء التعاطف الكامل مع أهلنا فى غزة ما دام الخونة يستغلون مشاعر أهلنا النبيلة فى التسخين والمزايدة ودفع الأمور لحافة الهاوية.. علينا أن نهدأ.. ونلتقط أنفاسنا.. ونهدئ أعصابنا.. لأن المباراة ما زالت فى أولها.. واللعب لم يبدأ بعد.