رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أغيثوهم... ذلك أفضل جدًا

كلما دارت رحى الحرب على أرضنا العربية المحتلة بفلسطين وجدنا المسيرات والمظاهرات والهتافات تملأ الشارع العربي من محيطه لخليجه، بل إن تلك الفعاليات تمتد في أصقاع الكرة الأرضية حيث بعض الذين يحملون ضمائر حية وعقولا قادرة على التمييز بين الحق والباطل. ولكن، ما الذي يحدث بعد أن يُفرّغ المتظاهرون شحنات غضبهم على المحتل الغاصب بالهتافات والدموع والصرخات؟.. للأسف الشديد، لا شيء.
 إذ يمضي المتظاهرون كل في طريقه إلى حيث بيوتهم ليخلدوا إلى النوم قريري الأعين مرتاحي الضمير يحتضنون أبناءهم ليناموا معهم في أمان بعيدا عن القصف وفي منأى من الترويع. ينامون أفرادا وشعوبا- وربما حكومات- وقد ظنوا أنهم بذلوا قصارى جهدهم دفاعا عن القضية ومساندة للأشقاء ودعما للإنسانية. ومنهم من ينهي يومه بصلاة العشاء ويختمها متمتما بالدعاء على المحتل الغاصب ومن عاونه من قوى الشر الظالمة. يمضي الجميع إلى حيث موائد الطعام يتناولون وجباتهم الساخنة ليعوضوا الجهد الذي بذلوه لساعات في الهتاف والدعاء على الأعداء. 
لا ينسى المتظاهرون إلقاء الخطب العصماء وتوزيع الاتهامات بالعمالة والخيانة وإدانة الآخرين ببيع القضية، كل هذا دون وازع من ضمير أو إعمال لعقل أو مساحة من التفكير. ووسط هذا كله ينسى المتعاطفون مع ضحايا العدوان على فلسطين- وقطاع غزة على وجه التحديد- ينسون الضحايا من أهل غزة أنفسهم، يغمضون أعينهم عن مئات المصابين في انتظار العلاج، وآلاف المشردين الباحثين عن مأوى بديل بعد أن دمرت بيوتهم دانات العدو وقذائفه. 
ولكن مصر بضميرها الحي وقيادتها اليقظة تنتبه إلى أن القضية ليست أرضا فقط، ولكنها أرض وشعب. أرض من حقها الاستقلال، وشعب من حقه الحرية والحياة. توقن القيادة المصرية بحكمتها أنه ليس هناك شعب- في العصر الحديث أو المعاصر- بطول الكرة الأرضية وعرضها تعرض لما يتعرض له أهلنا في غزة من عسف وظلم وتعذيب. ومن هنا يدرك قادة مصر أن إنقاذ البشر مقدم على تحرير الحجر. فما فائدة الأرض إذن حين تتحرر ولا تجد من يعمرها.

بدا موقف القيادة المصرية واضحا حين استقبل الرئيس السيسي، وزير خارجية الولايات المتحدة بلينكن. وبذكاء شديد قطع الطريق على المزايدين، فعلى غير العادة تم نقل جزء كبير من جلسة المباحثات صوتا وصورة، فشهد القاصي والداني الموقف المصري العروبي واضحا لا يحتمل مزايدة ولا يقبل تحريفا ولا ينتظر تأويلا، إذ موقفنا واضح أمام الجميع جهارا نهارا. صارح الرئيس ضيفه بما لم يكن يحب أن يسمعه، تحدث بصوت العقل وبضمير العربي الأصيل، إذ لم يغب في حديثه حرصه على صالح الأشقاء وفي القلب منه تأمين المأكل للناجين والعلاج للجرحى والمصابين، والمأوى للمشردين. 
 موقف ثابت- لا يقبل المساومة- يتسم بالثبات في الدفاع عن الحق العربي، والمحافظة على الثوابت المصرية، والحرص على كل شبر من التراب الوطني. توجّه مبدئي استحق عليه السيد الرئيس تأييد المعارض قبل المؤيد. ويحترم الجميع قوله: "إن اضطهاد اليهود لم يكن يوما صناعة عربية"، بل إنه واحد من جرائم الغرب الذي جنّد نفسه اليوم للدفاع عن الباطل تكفيرا عن خطاياه، فإذا به يرتكب جريمة أفدح في حق الإنسانية بالتضحية بشعب لم يكن يوما فاعلا، لكنه كان دائما صاحب رد الفعل دفاعا عن حقه في الحرية وسعيا لاسترداد حقوقه المشروعة.

ضرب الرئيس نموذجا لحاكم استطاع أن يكون ضمير شعبه والمعبّر عن آمال أمته والمدرك لآلامها والساعي لتحقيق طموحاتها بوعي وواقعية. حكمة بالغة تقي مصر من آثار الانزلاق إلى أتون مخططات لا تخدم المصالح الوطنية أو العربية، بل قد تزيدها تعقيدا. ورغم صعوبة الموقف قررت مصر عدم السماح بخروج رعايا الدول الأجنبية عبر معبر رفح البري دون السماح أولًا بدخول ناقلات المعونات الطبية والغذائية للأشقاء. وأكدت قيادتنا الرشيدة في أكثر من مناسبة على ضرورة تجنيب المدنيين لأي آثار تجرها هذه الحرب من تجويع أو تشريد أو تقتيل.
وبسرعة شديدة، وتعبيرا عن تأييد الشعب لموقف قيادته السياسية، استجابت القوى الشعبية والحزبية والمدنية لدعوة الدولة إلى التبرع بالغذاء والدواء والدماء دعما للمرابطين من أشقائنا الفلسطينيين. دور حكيم تلعبه مصر دون انفعال أو اندفاع، دور تقول به لجميع المتعاطفين مع الأشقاء في فلسطين: بادروا بمداواة المصابين، وإنقاذ حياة الضحايا بتأمين شربة ماء ورغيف خبز ثم امضوا إلى مظاهراتكم التضامنية. غير أننا صرنا أكثر تشككا فى أن العالم سوف يسمع  أصوات المتظاهرين أو يستجيب لصرخاتهم، فالعالم قد صار أصم وبلا قلب، لا يسمع إلا صوت الأقوياء ولم يستجب يوما لأنين الضعفاء.  

فيا أمتنا المكلومة ترجمي موقفك إلى كلمات يفهمها العدو وأنصاره، تحدثي بلغة المكسب والخسارة، ترجمي توسلاتك إلى مبدأ العرض والطلب ولا تنتظري نصرة من أحد إلا من نفسك. جودي بما يقيم أود المرابطين ولا تكتفي بالدعاء لهم، فقبل الدعاء من الضروري الأخذ بالأسباب. ومن أسباب النصر القادم إن شاء الله أن ندعم إخوتنا حيث هم في أمّس الحاجة إلى هذا الدعم. وثقي أيتها الأمة فى أن مصر- وكما جاء على لسان رئيسها- لن تسمح بتصفية القضية على حساب أطراف أخرى، سواء بالرضوخ لسياسة التهجير أو بقبول أي من المخططات اللئيمة التي يسعى العدو لفرضها على أرض الواقع. وبعد الأخذ بكل الأسباب نعود فندعو الله أن ينصر إخوتنا ويرحم شهيدهم وأن يثبت أقدامهم ويداوي جريحهم ويسدد رميهم.