رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى مديح محمد راضى

وأنت عندما تشاهد فيلم «أبناء الصمت» تتعجب من عدم شهرة اسم مخرجه الفنان القدير محمد راضى، وتتعجب أيضًا من خفوت نجم صاحب الرواية والسيناريو الكاتب الكبير مجيد طوبيا، كان الفيلم- الذى ما زال مبهرًا حتى اليوم- بمخرجه وكاتبه ومدير تصويره وفريق تمثيله جديرًا بشهرة أوسع وأكبر آنذاك، تضمن لكل هؤلاء جهدهم الخلاق فى صناعة هذه التحفة الفنية المتكاملة مع موسيقى بليغ وديكورات صلاح مرعى، لكن ظلمًا كبيرًا حدث مع الفيلم الذى تم تصويره فى مدينة السويس ما بين ١٩٧٣ و١٩٧٤، وتضمن أروع مشاهد العبور، وها نحن بعد خمسين عامًا على إنتاجه نستعيد سويًا ملامح تلك التجربة السينمائية من جوانب متعددة، لنعرف كيف صنع محمد راضى تلك الملحمة الإنسانية الفياضة؟، لكن قبل كل ذلك لا بد أن نعرف أنه فى التاريخ السينمائى كله لا توجد مشاهد لمعجزة العبور إلا هذه التى أخرجها محمد راضى، ومن اللقطات الكثيرة الفائضة جاءت المشاهد الحربية فى فيلمى «الكرنك» و«العمر لحظة» وغيرهما، إلى جانب ما نشاهده مصاحبًا للأغانى الوطنية والأفلام الوثائقية.

مجيد طوبيا وشقيقه البطل 

مجيد طوبيا، صاحب الرواية، قال إن فكرة «أبناء الصمت» جاءته أواخر أيام حرب الاستنزاف، حيث أُصيب شقيقه الأصغر «مجدى» بإصابات بالغة على ضفة قناة السويس الغربية، فى موقع اسمه جسر الحرس، وكان فى سلاح الإشارة، واستغرق علاجه ما يقرب من العام بين مستشفيى: القصاصين والحلمية العسكرى، وجناح خاص أفردوه للحالات الصعبة فى مستشفى الدمرداش التعليمى.

كنت أزوره ثلاث مرات كل أسبوع- يقول مجيد- ولمستُ مدى التقارب والمودة التى تجمع بين الجنود المصابين، وزملائهم الذين حرصوا على زيارتهم خلال إجازاتهم القصيرة جدًا، كانوا أكثر من أهل، رفاق سلاح وخطر، ولاحظت أن العنبر كان تجميعًا فذًا لشباب مصر، ثقافيًا واقتصاديًا وجغرافيًا.. ومن هنا جاءت الفكرة: أن أكتب عن حال بعض الشباب، مثل أخى الذى كان يعمل محاسبًا وأخذوه إلى الحرب، وقمت بتجميع شخصيات مصرية فى مخبأ تحت الرمال على شط القناة يسمونه ملجأ: شخصية من السويس التى كانت مهجرة وقتها، وآخر من الصعيد، وثالث قاهرى، ورابع مسيحى، وهكذا جميعهم مؤهلات فى أول الشباب، وقد تعطلت حياتهم ومشاريعهم الشخصية والعاطفية، وهم فى ملجأ تحت الرمال والخطر المحدق.

الرواية تحية لهؤلاء الشباب الذين هُزم بعضهم سنة ١٩٦٧ لأنهم لم يجدوا القادة، والذين انتصروا بعد ذلك سنة ١٩٧٣، بالأساليب العلمية، على هذا، يكون فيلم أبناء الصمت فيلمًا عن الشباب الذين يُضحون فى صمت، ومن هنا جاء العنوان، فهو ليس فيلمًا حربيًا بالمعنى المتعارف عليه.

لم يكن مجيد طوبيا مجرد كاتب للروايات والقصص آنذاك، بل كان عضوًا مؤسسًا بجماعة السينما الجديدة، التى أنتجت واحدًا من أفلام العبور العظيمة «أغنية على الممر» للمخرج الشاب وقتها على عبدالخالق والكاتب الشاب على سالم، وكان محمد راضى رئيسًا لتلك الجماعة الفنية التى ضمت رأفت الميهى وأحمد متولى، ومن هنا بدأت العلاقة بين المخرج الاستثنائى والكاتب العبقرى وبدأ العمل لتحويل الرواية إلى عمل سينمائى يعبر عن جيلهم الذى عاش الهزيمة وشهد النصر وظل بعيدًا عن الأضواء، هؤلاء الذين يشبهون شقيق مجيد طوبيا فى كل شىء، شلبى الفلاح الطيب، محمود العامل فى السويس والذى رفض مغادرة مدينته، ومعهما ابنا الطبقة الوسطى الصغيرة من الجامعيين صابر ومجدى، الذى شهد يوم الهزيمة وظل يحلم بيوم النصر، والسيناريو يتنقل بنعومة بين جبهة القتال والجبهة الداخلية من خلال مجدى وخطيبته الصحفية نبيلة، حتى شخصية ماهر «المسيحى» جاءت ناعمة باعتبارها شخصية مصرية عادية لا تضيف الديانة إليها شيئًا سوى صورة العذراء التى تظهر مع استشهاد ماهر، وفى الإجازات القصيرة بين العمليات القتالية نرى الجنود فى حياتهم العادية، صابر المقاتل هو مدرس القرية، ومحمود عامل بمديرية التحرير، ومجدى يتابع خطيبته نبيلة وهى تخوض معركتها الصحفية مع رئيس التحرير.. والرواية والسيناريو عن هؤلاء العظماء من أبناء الصمت والصمود مجرد شخصيات على الورق تنتظر جهة إنتاج.

محمد راضى ومغامرة الإنتاج

جاء يوسف السباعى وزيرًا للثقافة فى مارس ١٩٧٣، فتزايد الأمل بإمكانية إنتاج الفيلم من خلال مؤسسة السينما، خاصة أن السباعى يقرأ لمجيد طوبيا ويبدى إعجابًا كبيرًا بكتاباته، وتجمعهما صداقة تضمن الرهان على إمكانية صناعة عمل فنى كبير، وبالفعل تحمس السباعى للفكرة وأصدر تعليماته إلى محمد الدسوقى، الذى كان يشغل وظيفة رئيس مؤسسة السينما، بإنتاج فيلم أبناء الصمت، لكن حدث ما لم يتوقعه أحد، وأعلنت مؤسسة السينما توقفها النهائى عن الإنتاج، وأُصيب مجيد بالإحباط، لكن محمد راضى رفض الاستسلام وقرر إنتاج الفيلم فى مغامرة كبيرة جعلت يوسف السباعى يُسخر كل الإمكانات والعقبات كأقل تقدير لقيمة العمل، الذى أعجب به وعجز عن إنتاجه من خلال مؤسسة السينما.

كان على «راضى» أن يبحث عن حلول إنتاجية، فقرر الدفع بالوجوه الجديدة «أحمد زكى ونور الشريف فى التمثيل، وماهر راضى مساعدًا فى التصوير مع العبقرى عبدالعزيز فهمى، وعادل منير مساعدًا للمونتير الكبير أحمد متولى»، فالعمل موجه للشباب وهؤلاء هم الشباب، والفيلم يستحق مغامرة الإنتاج بعد تخلى مؤسسة السينما، وخاضها محمد راضى متحملًا العبء الأكبر ماديًا ومعنويًا وصحيًا، فقد بدأ تصوير الجزء الحربى من الفيلم فى شهر رمضان التالى لشهر العبور مباشرة، وكان عليه أن يستغل فرصة توفير المعدات الحربية والمساعدات الكبيرة التى قدمتها القوات المسلحة فى تصوير عدد ساعات يضمن له اختيار المشاهد التى يحتاجها فى الفيلم، واستغرق تصوير تلك المشاهد خمسة أسابيع، والمشاهد المدنية مثلها، أى أن الفيلم تكلف ميزانية فيلمين.

يقول محمد راضى فى حوار مع الناقد الكبير محمود على: «كنا نعيش فى مدينة السويس المهجرة، وفتحنا أحد الفنادق المغلقة، لم يكن فى المدينة غير طاقم الفيلم من ممثلين وفنيين.. مجهود وعبء ضخم، وساعدتنا المخابرات الحربية فى التنقل وسط هذه الظروف الصعبة.. صورنا حوالى ثلاث ساعات.. وهذا كثير جدًا بالنسبة للفيلم، كنا نصور بتسع كاميرات تحت قيادة عبدالعزيز فهمى كمدير للتصوير، وهى المادة النادرة التى استعنا بها فى (العمر لحظة) و(حائط البطولات)».

كانت التجربة الأولى له فى إخراج المشاهد الحربية والتفجيرات والمجاميع، هكذا يقول رفيق التجربة الكاتب مجيد طوبيا، فقد كان ملازمًا لمحمد راضى منذ اللحظة الأولى فى كتابة سيناريو الفيلم:

«أنا شخصيًا حضرت معظم أيام التصوير المدنية والحربية، وأشهد بأن جميع مشاهد الحرب والانفجارات تمت بمواهب مصرية، على عكس فيلم الرصاصة لا تزال فى جيبى الذى أخرج مشاهده الحربية إيطاليون، كان راضى يتركنى مع المونتير عادل منير ويسافر لتصوير مزيد من اللقطات الحربية، فهى التجربة الأولى له مع مشاهد الحرب والتفجيرات والمجاميع الهائلة، لذا قام بتصوير اللقطات المطلوبة أضعاف أضعافها من باب الاحتياط، وكان ذلك من حسن حظ أبناء الصمت، وأفلام أخرى، لأنه فى التاريخ كله وفى العالم كله لا توجد مشاهد لمعجزة العبور إلا هذه التى أخرجها محمد راضى، ومن اللقطات الكثيرة الفائضة جاءت المشاهد الحربية فى فيلمى الكرنك والعمر لحظة وغيرهما، إلى جانب ما ترونه مصاحبًا للأغانى الوطنية والأفلام الوثائقية».

المونتير الشاب عادل منير هو الذى تحمل نتائج هذا الشغف بتصوير مشاهد الحرب، فكان يعمل ١٤ ساعة يوميًا حتى سقط من الإعياء بعد أن أنهى مونتاج الفيلم كاملًا باستثناء مشهد العبور الأخير، الذى أنهاه أحمد متولى فى زمن قياسى، وكانت مهمته عسيرة، إذا كان عليه أن يستخرج مشهد عبور مدته ٨ دقائق على الشاشة من حوالى ١٨٠ دقيقة تصوير- ثلاث ساعات تقريبًا.

السينما الجديدة والفنان النبيل 

الحماس الكبير الذى دفع محمد راضى لخوض إخراج وإنتاج «أبناء الصمت» ليس وليد لحظة النصر، وليس انعكاسًا لحماس يوسف السباعى، ولا بتوفير القوات المسلحة الأسلحة والذخائر والمعدات، لكن هذا الرجل يحمل رؤية استثنائية جدًا منذ بداية مشواره، و«أبناء الصمت» بالنسبة له كان جزءًا منها، فهو مؤمن بالتجديد فى السينما، ويرى أن شباب جيله قادرون على ذلك، وكانت جماعة السينما الجديدة التى تولى رئاسة مجلس إدارتها شاهدة على إيمانه بالفكرة، وشاهدة أيضًا على مدى النبل الذى يتمتع به محمد راضى صاحب التجارب السينمائية المتميزة والمظلوم إعلاميًا وفنيًا، فقد أنتجت جماعة السينما فيلمين كان من بينهما فيلم «أغنية على الممر» لمخرج شاب هو على عبدالخالق، لكن البطولة الحقيقية فى خروج هذا الفيلم للنور كانت لمحمد راضى، الذى تولى بنفسه الإشراف على الإنتاج والتفاوض مع مؤسسة السينما ودخول معارك التوزيع ونسب الشراكة بين المؤسسة والجماعة، وقام بإقناع الممثلين الكبار والفنيين بالتنازل عن جزء من أجورهم، وأقنعهم أيضًا بالتعاون مع المخرج الشاب على عبدالخالق، وعندما تخلت مؤسسة السينما عن إنتاج «أبناء الصمت» لم يفكر محمد راضى فى جماعة السينما الجديدة لإنتاج فيلمه خوفًا من أن يقول البعض إنه استغل منصبه، ولا أظن أن هناك نبلًا ونقاءً أكبر من ذلك، وإن كان الكاتب بهيج إسماعيل يضيف جانبًا آخر من النبل والفن، حيث يحكى أن محمد راضى اضطر إلى بيع مكتبته الثقافية التى كانت تضم نوادر من المؤلفات والموسوعات لإنتاج أول فيلم من تأليف بهيج وإخراج محمد راضى بعنوان «المقيدون من الخلف».

هذا الرجل الذى تحمس لتسجيل بطولات الحرب مبكرًا، والذى ما زالت معظم الأفلام والبرامج الوثائقية تقوم على المشاهد التى قام بتصويرها، هذا الرجل الذى قدم سيمفونية فى «أبناء الصمت» ثم فى «العمر لحظة»، والذى حاول استكمال سلسلة أفلامه عن حرب أكتوبر بحائط البطولات، كان يحتاج تكريمًا خاصًا فى احتفالاتنا بخمسين عامًا على نصر أكتوبر العظيم، محمد راضى إلى جانب كل ما سبق هو صاحب تجارب سينمائية طليعية غاية فى الأهمية منها «الإنس والجن»، «أمهات فى المنفى»، وفيلم «وراء الشمس»، الذى تدخل السادات بنفسه للسماح بعرضه بعد مقال لمصطفى أمين.