رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بطل أبطال أكتوبر

فى ذكرى نصف قرن على حرب العبور، فإن التحية واجبة للإنسان المصرى.. بطل أبطال هذه الحرب وصانع معجزة الانتصار رغم كل الظروف.. لقد صهرت نيران الألم معدن المصريين جميعًا بعد صدمة الهزيمة، وصنعت سبيكة فريدة تجلت فيها الصفات الحضارية للإنسان المصرى.. فبوعى جماعى فطرى أدرك المصريون أنهم لا بد أن يواصلوا نهج المقاومة حتى تحقيق نصر عسكرى، وكان نزولهم لرفض تنحى جمال عبدالناصر إعلانًا لهذا النهج أكثر مما هو تمسك بشخص زعيم أحبوه وعرفوا قدره.. لمعت السبيكة المصرية تحت نيران الألم، فخرج من صفوف القوات المسلحة رجال مثل محمد فوزى وعبدالمنعم رياض والآلاف من زملائهما أدركوا أن الجدية والانضباط والعرق، هى السبيل الوحيد لرد اعتبار مصر وجيشها وشعبها، فتفانوا وأخلصوا وبذلوا كل ما لديهم.. ولم يكن جمال عبدالناصر بعيدًا عن نيران الإعداد للمعركة التى شغلت كل تفكيره وجهده العصبى والذهنى، فراح شهيدًا لها وهو ما زال فى الثانية والخمسين من عمره.. السبيكة المصرية الحضارية لمعت مرة أخرى تحت نيران الألم وهى تفرز قائدًا عبقريًا مثل السادات.. صعد به التحدى من شخص لا يرى الآخرون قدراته إلى مدارج عظماء الرجال، فانطلقت قدرته على القيادة وعلى التعامل مع مستجدات الوضع العالمى.. من أبطال أكتوبر، أيضًا، آلاف الطلاب الذين تظاهروا فى الجامعات مطالبين بالحرب وبتحرير الأرض، ومن أبطالها أيضًا صفوة كتاب مصر ومثقفيها الذين وقعوا بيانًا يطالب بالحرب والتحرير فى ضوء عدم إطلاعهم على خطة الخداع والمناورة التى يقودها فلاح مصرى ماكر هو أنور السادات.. من أبطال الحرب المصرى سعدالدين الشاذلى رئيس أركان الجيش قبل وأثناء المعركة، وواضع الخطة «جرانيت» والذى تزخر مذكراته بآلاف التفاصيل الفنية العبقرية التى فكر فيها من أول وزن «الشدة» التى سيعبر بها الجنود إلى ما سيأكلونه فى المعركة، وحتى الخطط الاستراتيجية ذات المستوى الأخطر.. من أبطال المعركة المشير العظيم عبدالغنى الجمسى صاحب كراسة الجمسى التى دوّن فيها تفاصيل التفاصيل، ومنها موعد العبور.. العسكرى الصلب والشريف الذى وصفته جولدا مائير بـ«النحيف المخيف».. العبقرية المصرية جعلت الكل يتفانى فى العطاء بغض النظر عن موقعه، ولذلك لمعت عبقرية ضابط المركبات الرائد باقى زكى الذى ألهم القوات المسلحة خطة إزالة الساتر الترابى بخراطيم المياه على حد ما رأى وهو يعمل مهندسًا فى السد العالى.. هذه العبقرية هى التى ألهمت صف الضابط النوبى أحمد إدريس الذى ألهم مصر فكرة استخدام اللغة النوبية الشفاهية كشفرة لحرب أكتوبر.. العبقرية المصرية هى التى ألهمت الجندى المجند محمد عبدالعاطى لأن يتجلى كبطل أسطورى وهو يحمل مدفعه المضاد للدبابات، وكأنه «رامبو» المصرى ويُسقط ٢٣ دبابة من لواء عساف ياجورى ويحصل على نجمة سيناء ثم يختفى بعد ذلك فى قريته لعقود طويلة، وكأنه لم يكن يريد من بلده جزاءً ولا شكورًا.. العبقرية المصرية هى التى ألهمت ضابطًا مصريًا مجهولًا لأن يأمر بارتداء الأسرى الإسرائيليين بيجامات غزل المحلة أثناء تسليمهم للصليب الأحمر، لتصبح اللقطة «ترند» دائمًا ومتكررًا على مدى خمسين عامًا.. لقد جاءوا سيناء بالبدلة العسكرية وخرجوا منها بملابس المنزل.. والمعنى واضح وجلى وعبقرى.. لمحة من لمحات العبقرية المصرية تألقت فى وهج المعركة ثم مضت لحال سبيلها.. من أبطال المعركة محمد أفندى العباسى المارد المصرى الذى ما إن رسى قاربه المطاطى على شط سيناء حتى كان أول ما فكر فيه هو أن يرفع علم مصر عاليًا على الضفة الشرقية للقناة رمز سيادة وعلامة انتصار لا تخطئها عين.. ليدخل فى ذاكرة المصريين الجمعية والوجدانية حاملًا لقب «محمد أفندى رفعنا العلم».. هذه العبقرية المصرية انطلقت مرة أخرى فى «المزرعة الصينية» حين نصبت الفرقة ١٦مدرعات كمينًا لقوات العدو بقيادة أرئيل شارون وأصيب قائد الكتيبة المقدم محمد حسين طنطاوى فى المعركة، وكانت إصابته علامة فخر وشهادة بأنه من الرجال الذين يجب أن تعتمد عليهم مصر فى مستقبل الأيام.. عبقرية مصر تجلت مرة أخرى فى صمود أهالى السويس أيام الحصار.. وفى الفدائيين الذين انشقت عنهم شوارع السويس ينصبون الكمائن للعدو ويتعقبونه من شارع لشارع ومن مبنى لمبنى باذلين كل جهد يمكن أن يبذل حتى النهاية.. عبقرية المصرى فى أكتوبر تجلت فى أنه انتفض وحول الهزيمة إلى نصر، وجعل جولدا مائير تنهار وتطلق نداءها الشهير «أنقذوا إسرائيل».. بطل أكتوبر هو المصرى العادى فى كل موقع وفى كل ميدان وفى كل معركة استمد من مخزونه الحضارى العميق وتألق وأبدع.. أكون كاذبًا لو قلت إن روح أكتوبر العبقرية قد استمرت حتى الآن.. وكأن هناك من أدرك خطورة استمرار هذه الروح فسعى لإزهاقها وتخريبها ومحو ملامحها ليتم غزو مصر بالتطرف والإرهاب والفساد، وغير ذلك مما نعرف جميعًا.. إن علينا أن نقارن صورتنا كمصريين فى يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ بصورتنا الآن.. لنعرف أن علينا التمسك بمشروعنا الوطنى لاستعادة مصر التى كانت، وليست مصر التى أرادها أعداؤنا.. والله على كل شىء قدير.