رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منتصر القفاش: «بصورة مفاجئة» يرصد التفاعل الإنسانى بين الأجيال المتعاقبة داخل الأسرة الواحدة

منتصر القفاش
منتصر القفاش

ينتمى الروائى والقاص منتصر القفاش إلى جيل التسعينيات من المبدعين المصريين الذين أثروا الكتابة الأدبية بجماليات مغايرة فى أعمال انتهجت التجريب لتصنع سمتًا خاصًا ومغايرًا. فعبر ثلاث روايات هى «تصريح بالغياب»، و«مسألة وقت»، و«أن ترى الآن»، وخمس مجموعات قصصية هى «نسيج الأسماء»، و«السرائر»، و«شخص غير مقصود»، و«فى مستوى النظر»، وأخيرًا «بصورة مفاجئة»، استطاع القفاش أن يضع اسمه فى مصاف كبار الكتّاب بالوقت الراهن. 

فى هذا الحوار، نناقش مع «القفاش» كتابه القصصى «بصورة مفاجئة»، الصادر مطلع هذا العام عن دار «الكتب خان»، وما يطرقه عبر المساحات المكانية الضيقة والأشياء البسيطة المهملة من عوالم فلسفية وفكرية حول الحياة الإنسانية والظرف التاريخى.

■ من الشائع فى المجموعات القصصية أن يكون عنوانها هو عنوان إحدى القصص بها، ولكن فى كتاب «بصورة مفاجئة» لا يتحقق ذلك.. ما دواعى هذا الاختيار؟ 

- أُفضِّل دائمًا أن يكون عنوان المجموعة شاملًا لكل قصص الكتاب، كأن العنوان أشبه ببوصلة توضح للقارئ اتجاهات يمكن أن يمضى معها أو فيها من خلال القصص. هذا مرتبط أيضًا بفكرة الكتاب القصصى الذى ظهر بشكل واضح بكتابى «فى مستوى النظر»، وفى هذا الكتاب. ففى الكتاب القصصى يمكن قراءة كل قصة على حدة أو قراءة القصص باعتبارها تُشكِّل وحدة ما. 

القصص فى النهاية تعطى ملامح لعالم واحد يعيش فيه القارئ، يمكن أن تكون بداية كل كتاب قصة بعينها هى التى أطلقت قصص الكتاب أو هى كلمة السر التى تفتح مغارة الحكايات، وليس شرطًا أن تكون فى بداية الكتاب، فمن الممكن أن تكون فى نهاية الكتاب كما هو الحال فى كتاب «بصورة مفاجئة». 

■ هل أردت من خلال العنوان التعبير عن شكل مفاجئ من إدراك الإنسان لمعنى وجوده بمرحلة ما من حياته يمنحه منظورًا مغايرًا؟ 

- من ضمن معانى العنوان أن الشخصيات أحيانًا تأتى عليها لحظة مفاجئة أو دون سابق إنذار تجعلها تعيد النظر أو ترى شيئًا فى عالمها بشكل مخالف لما اعتادت عليه. أيضًا يمكن أن يشير العنوان إلى حدث كبير أو صغير يفاجئ الشخصية نفسها بملامح لم تكن تراها وبجوانب كانت غافلة عنها، فالعنوان يتراوح بين هاتين الدلالتين. 

■ هل جاءت كتابتك لقصص الكتاب على فترات متباعدة، كل قصة تداعٍ لفكرة أو ذكرى ما كتبتها وقتما حضرتك؟ أم أنها انطلقت من سؤال محورى تفرّق عبر القصص؟

- لم أكتب القصص بشكل متتابع، إذ كانت هناك فترات تفصل بين كل قصة والأخرى. أحيانًا كانت بعض القصص تُكتب فى فترات متقاربة، لكن هناك قصصًا كُتبت بعدها بعامين أو ثلاثة. مع ذلك، وعلى الرغم من وجود فاصل زمنى بين كتابة القصص، فقد كان عالمها يشغلنى باستمرار فترة ابتعادى عنه، ويظهر فى اليوميات التى أُسجلها. 

■ على ذكر اليوميات، ما الذى تمثله من أهمية بالنسبة إليك؟ 

- أكتب فى اليوميات ما يسعدنى أو ما يغضبنى، وتتيح لى الكتابة عن الأشياء المُلحّة التى تفرض نفسها على ذهنى. هى أيضًا فرصة بأن أُفكر على الورق دون انشغال بأى شكل للكتابة أو النشر، ففيها قدر من الحرية يتيح لى التفكير فيما حدث وما سيحدث وفى أى سؤال يشغلنى، حتى لو كان سؤالًا فنيًا، إذ تساعدنى كتابة اليوميات على حل المشكلة ورؤية مخرج منها، فأحيانًا أفكر أنها ورشة خاصة بى أجرب فيها أساليب الكتابة. 

■ يختلف كل كاتب فى تعاطيه مع فن القصة وفى الأولوية التى يمنحها لعنصر ما بها.. بالنسبة إليك، هل القصة تحقق مرامها كلما كانت أكثر اقترابًا من الشعر؟

- بالتأكيد قراءة الشعر من الأشياء التى أحبها جدًا، خصوصًا الشعر الذى يفاجئنا فى أسطر قليلة برؤية ما لا نراه أو يجعلنا ننشغل بالتفكير فى القصيدة ونرى العالم بشكل مختلف، ولكن الأمر مرتبط برؤيتى الفنية بشكل عام. 

انشغالى بالمشهد، أو اللحظة التى تكتبها القصة، ومحاولة إظهار ما فيه من مستويات متعددة ومختلفة، والاهتمام بوضع تفاصيل هامشية فى الصدارة هى عناصر مرتبطة بعشقى الدائم للتكثيف، ليس فقط على مستوى اللغة، ولكن فى الرؤية نفسها التى أحب أن تكون مكثفة، فليس شرطًا أن نسترسل فى حكى عن شخصية لكن يمكن ذكر تفاصيل صغيرة بشكل مكثف تكشف عن جوانب الشخصية.

■ لماذا تكتسب الكتابة عما هو عادى ويومى أهمية خاصة بالنسبة إليك؟ 

- ما يطلق عليه العادى هو منبع من منابع الإلهام بالنسبة إلىّ، فما نظنه عاديًا أو عابرًا يحمل فى داخله دائمًا عالمًا قد لا نراه بسبب اعتيادنا عليه، أو ننظر إليه نظرة عابرة دون التوقف عنده.

فى قصص «بصورة مفاجئة» هناك أشياء مهملة، مثل حصان شطرنج خشبى أو قطعة زلط، تتصدر المشهد وتؤثر فى الشخصيات بالقصة، ونرى علاقة هذه الأشياء الخاصة مع الشخصيات والتى يصعب تجاهلها. 

هذا الانشغال بالعادى هو انشغال بحياتنا التى نعيشها يوميًا، وأحيانًا نعيشها متسرعين ومتعجلين، وإذا سنحت الظروف وتوقفنا لحظة يمكن أن ننتبه إلى ما فيها من جوانب غنية يمكن أن تضيف إلينا، التعجل والتسرع أحيانًا يجعلنا نتجاوزها ونخسر فرصة أن نراها عن قرب. 

■ هل يمكن اعتبار هذا الخيار فى الكتابة تعبيرًا عن موقفك من الحياة فى غمرة ظرف تاريخى محكوم بدوامة من الاستهلاك؟ 

- بالفعل يمكن قراءة المجموعة من هذه الزاوية، ففى ظل عالم متسارع يستهلك كل شىء دون شعور حقيقى بالحياة، تقدم قصص الكتاب طريقة أخرى للإحساس بتلك الحياة. فالشخصيات على الرغم من أننا يمكن أن نقابلها أو نراها أو نتعامل معها فى كل يوم، تقدم لنا الكيفية التى نعيش بها حياتنا من دون تعجل وتسرع، كما أن الجانب الخاص فى حياة شخصيات القصص التى ما زالت تحافظ عليه يُبين كيف يُمكّنها من أن تحيا بشكل أعمق. 

■ الانشغال بالذاكرة أساسى فى «بصورة مفاجئة» ومرتبط بأشياء تبدو بسيطة ومهملة.. ما سبب اهتمامك بهذا الجانب؟ 

- الأشياء فى القصص لها ذاكرة، فهى تعيش مع الشخصية فى البيت منذ سنوات طويلة وتُلهمها وتفتح لها باب ذكريات أحيانًا تكون غافلة عنه، بالإضافة إلى أن الذاكرة نفسها إبداع بمعنى أننا لا نتذكر الشىء، كما حدث فى الماضى بحذافيره، بل على العكس تعيد الذاكرة تركيب الماضى وتربط بين أحداث مختلفة فى أوقات متباينة.

فى الكتابة عن الذاكرة يكون التحدى ألا تحاول اختزالها حتى تظهر بشكل منطقى، وأن نترك مساحة لها لتقدم أحداثًا بعيدة عن المنطق المعتاد أحيانًا، فمن المهم تصديق ما تُبدعه الذاكرة، فإن استطعنا أن نتأمل هذه العلاقات التى تُشكلها الذاكرة نصل إلى دلالات ومعانٍ لم نكن منتبهين إليها. 

■ هل الأشخاص فى تشبثهم بالأشياء وبذكريات عن الآخرين هم فى حالة تأمُل لذواتهم أيضًا؟ هل الجد فى قصة «الملاكم» يتأمل حياته عبر حياة الآخر؟ 

- بالفعل يستدعى الجد ذاته عبر شخصية الملاكم، لكن أيضًا حرصه على أن تظل صورته موجودة بشكل من الأشكال يأتى من رغبته فى أن يمنح الحياة لشخصية ماتت صغيرة، فيحرص على أن تظل هذه الشخصية حية بالحديث عنها أمام الأجيال التالية، ومن شدة ارتباطه بالملاكم يحاول أن يكون هو ذاته امتدادًا لهذا الشخص الذى مات فى سن مبكرة قبل أن يحقق ما يصبو إليه.

■ تحتفظ الشخصيات فى «بصورة مفاجئة» برؤية متسامحة إزاء الموت فهم لا يهربون منه ولا يخشونه.. هل هذا الموقف من الموت يرسم رؤية للحياة بالمقابل؟ 

- نعم، تدرك شخصيات الكتاب أن حتمية الموت لا تنفى إمكانية رؤية الحياة بشكل متجدد، فإيمانها بأن الموت شىء محتم لا يمنعها لآخر لحظة أن تعيش حياتها. 

فى قصة «فى رؤية الأشياء» تحكى الشخصية قبل أن تموت بشهور قليلة لأفراد الأسرة الآخرين كيف أنها انتبهت لتفاصيل للحياة لم تتوقف عندها من قبل، فيتحدث الجد عن هذه الأشياء التى فاجأته فى الحياة وهو على أعتاب الموت، وكأنه يمنح الآخرين الحياة رغم أنه فى نهاية عمره. 

■ الأحلام أيضًا بالمجموعة تحتفظ بأهمية كبيرة فى السياق العام للقصص.. ما السبب؟ 

- هذا نابع من عدم وجود فصل حاسم بين جوانب حياتنا، فهى مشتبكة مع بعضها البعض، الأحلام تشتبك مع الأحداث اليومية المعتادة وتتداخل معها باستمرار، وتؤثران فى بعضهما البعض، وهى بالنسبة للشخصيات ليست أشياء عابرة ولكنها تتحول إلى رسائل بها الكثير من المعانى الخفية.

الأحلام بقدر ما هى رسالة هى أيضًا دعوة للانتباه إلى الحياة وتفاصيلها، وهى جزء لا ينفصل من حياة كل شخصية. 

■ هل يمكن اعتبار الكتاب صورة بانورامية من الحياة الإنسانية من الطفولة مرورًا بالشباب ثم الشيخوخة؟ 

- نعم، فنحن بشكل من الأشكال داخل أسرة نعايش أفرادها من أجيال مختلفة، ونرى الحياة من منظور أجيال فى فترات زمنية مختلفة، كما نشهد التفاعل بين هذه الأجيال إلى درجة تتلاشى معها الفوارق العمرية وتنخرط الشخصيات من مختلف الأعمار فى قصص مشتركة. 

■ هل تتفق معى فى أن الكتاب ينحاز إلى رؤية كبار السن للحياة وما تعكسه من صفاء وحكمة؟ 

- هذا وارد بصورة ما، إذا ابتعدنا عن الأسباب الفنية، أذكر أننى كنت محظوظًا بمعاصرة جدى وجدتى، ومعايشة طريقتهما الحكيمة فى التعامل مع الحياة؛ حكمة تظهر دون إلحاح من خلال تصرفاتهما اليومية الطبيعية. كان قربى منهما مؤثرًا ومُلهمًا لى فى وقت لاحق، وربما يكون قد ظهر بالكتاب دون وعى منى.