رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كتاب قصصى يدور حول طباع البشر واختلاف رؤيتهم لقضايا الحياة

منتصر القفاش
منتصر القفاش

يُفضّل منتصر القفاش تسمية أعماله القصصية بـ«الكتاب القصصى» عوضًا عن «مجموعة قصصية» لما قد تحمله التسمية الأولى من إمكانات ارتباط بين القصص لا تحول دون قراءتها منفصلة فى الوقت ذاته. 

هذه الإمكانات من الاتصال والانفصال ليست فقط لعبة فنية يجيدها القفاش فى كتابه «بصورة مفاجئة»، لكنها أيضًا وسيلته لطرح تأملات فى حقيقة الوجود سواء تحقق ذلك من خلال الحكايات منفردة أو بالحكاية كاملة كما تكوّنها فسيفساء المجموعة. 

لن يُقيّض لقارئ كتاب «بصورة مفاجئة» الوصول إلى دلالاتها بيسر، فالدلالات هنا أشبه بكُنة الوجود الذى يحتاج إلى بحث خاص يخوضه كل فرد على حدة، ويصل فيه كل شخص إلى المعنى الخاص الذى يتصل بذاته. ومن هذا التضافر بين ما هو فنى وما هو وجودى، يكتسب الكتاب فرادته.

 

بانوراما الحياة

بشكل ما، تقدم قصص الكتاب صورة بانورامية تعكس اختلاف تعاطى الإنسان مع وجوده باختلاف المرحلة العمرية، بدءًا من الطفولة مرورًا بالمراهقة ثم الشباب وأخيرًا السن المتقدمة. فالقصص، حال النظر إليها فى اتصالها، تروى حياة أسرة تضم أفرادًا من مراحل عمرية مختلفة، فنعاين قصصًا عن الحب والصراع والخوف والذكريات والأحلام، تعكس رؤية كل فرد منهم وفهمه للحياة ومغزاها. 

هذه الرؤية الشاملة لا تحول دون مقاربات تفصيلية وعناية قصوى بأبسط التفاصيل وأكثرها عادية، بل إن عناية القصص بكل ما هو هامشى واعتيادى هى ما ترسم الصورة مكتملة للحياة. ففى قصة مثل «كان يا ما كان تلك الحرب» تحضر رؤية الطفولة البريئة والبسيطة للعالم، ولكن فى الآن ذاته تتحقق مقاربة تفرض ذاتها بين براءة هذا العالم حتى فى أوج ما يظنه الطفل عنفًا والواقع الذى يشهد بالفعل أعلى درجات العنف والوحشية. 

 

فى رؤية الأشياء

تتحقق الرؤية الكلية فى الكتاب بانشغال أساسى بكيفية رؤية الأشياء، فمن خلال احتفاء بأبسط الأشياء وبمنحها بُعدًا تشخيصيًا باعتبارها كائنًا يروى أو يدخر قصة ما، يسلط القفاش الضوء على الرؤى الغائبة للحياة، والتى لا يدركها الإنسان فى خضم انشغاله ولهاثه اليومى، ويبرز كيف تكسب هذه الرؤى الحياة جمالها ورونقها، وكيف تكمن السعادة ويتحقق الرضا فى أبسط التفاصيل وأكثرها اعتيادية فى حياة الإنسان. 

قد تكون قصيدة «الرغبة» لوديع سعادة هى الأكثر اتصالًا بهذا الجانب من الكتاب القصصى، فحديث «سعادة» عن «رقص على الدرب لا يراه الراكضون. رقص يعرفه الجالسون»، وعن أغنية لا يسمعها سوى الساكنين، لأن «الضاجين طرشى ضجيجهم»، وعن الغناء الجميل فى السكون ودهشة الأصوات فى الصمت، هو ما تدركه شخصيات «بصورة مفاجئة» الذين يدخلون فى علاقات مع أشيائهم الحميمة؛ تلك الأشياء التى تقيهم من «صمم الضجيج».

فى قصة «أماكن الكنز»، يدرك الأخ أن «الكنز الذى قد يظل الإنسان يلف ويدور بحثًا عنه، بعد مرور زمن أو قطع مسافات طويلة يلتفت فجأة ليجده بالقرب منه منذ البداية». وفى «دور شطرنج» تدرك الشخصية أن الأشياء الضائعة التى نبحث عنها هى أمامنا ولا نراها، أما فى قصة «رؤية الأشياء» فثمة جمال كامن فى أشياء معتادة يحتاج إلى أذن رهيفة تلتقط الأغنية ولا تنشغل عنها. 

معنى الوجود

قصص الكتاب فى رمزيتها المكثفة تكشف عن فهم للوجود أقرب إلى رؤية مارتن هايدجر، فالوجود عند هايدجر هو وجود نحو الموت، أى أن إمكانات الوجود الإنسانى تصل إلى أقصاها بالموت، ومن ثم يقود إدراك الإنسان لحقيقة موته إلى تكثيف إمكانات وجوده، ورغبة فى استيفائه كاملًا. 

الموت فى القصص لا يمثل فزعًا ولا نهاية مأساوية يتجنب الأفراد ذكرها، بل يحضر باعتباره حقيقة تقود إلى حياة أكثر عمقًا، ويفتح الباب لإمكانات تعاطى مع اللحظة الراهنة مع وعى بأنها ستؤول حتمًا إلى نهاية. من هنا يقضى الجد بقصة «فى رؤية الأشياء» أيامه الأخيرة فى اكتشاف جمال كل ما رآه عابرًا واعتياديًا على مدار حياته، ويكمل الجد فى قصة «الملاكم» حياة البطل الذى مات فى سن صغيرة دون أن يتمكن من أن يُسمع العالم المزيد من بطولاته وانتصاراته، وتستأنف الأم حكاية ابنتها الصغيرة فى قصة «وفى يوم من ذات الأيام» بحفاظها على اختياراتها البسيطة والبريئة قبل أن يغيبها الموت. 

جانب آخر من الوجودية الهايدجرية يتحقق فى علاقة الإنسان مع الأشياء من حوله، فمن أسس فهم الوجود عند هايدجر أن ينفتح الإنسان على الوجود عبر الإصغاء لما تفصح عنه الأشياء من إشارات، وما تكشف عنه من سماتها الخاصة، والكف عن حصرها فى نطاق محدود أو أطر ضيقة. 

وفى كتاب «بصورة مفاجئة» تُشخصن الأشياء وتُمنح لها حياة كاملة، بل إنها ترسم حياة الأفراد من حولها، فالحصان فى القصة التى تحمل عنوان «الحصان» يعاد اكتشافه مرة أخرى بعد أن انتهى دوره الحقيقى ليصير ركيزة فى كل حدث بالأسرة، وفى قصة «تلك الأوقات» تعاون الأشياء العم على الاحتفاظ بذكرياته الأثيرة التى تشكل ذاته، وكذلك فى قصة «رسائل» تفتح تلك القصاصات الصغيرة المطوية داخل كتاب صفحة الذات على اتساعها وتقود الشخصية نحو تأمل ماضيها وراهنها. 

تُشكّل شخصيات الكتاب حياتها وفق صوتها الداخلى وأفكارها التى تمنحها السعادة والامتلاء مهما بدت تلك الأفكار غريبة للآخرين، ويُشكل كل فرد بالكتاب علاقته الخاصة بالأشياء من حوله ومعناه الخاص لوجوده، هربًا من أن يصير هو نفسه موضوعًا للاستهلاك يفقد قيمته بانتهاء استخدامه.