رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

راحو فين حبايب الدار؟.. وقائع دهس ذكريات أم كلثوم وسعاد حسني تحت عجلات اللودر

سعاد حسني وأم كلثوم
سعاد حسني وأم كلثوم

فى أبريل عام ١٩٣٤ تسلمت الآنسة أم كلثوم، أهم مطربة فى مصر حينها، مفتاح فيلتها الجديدة على نيل الزمالك.. من تصميم المعمارى الأشهر على لبيب.. الذى أصبغ فيها روح بنت طماى الزهايرة بأسلوب عصرى جعلها أشبه بدوار كبير.. ومنذ اللحظة الأولى تعاملت ثومة معه على أنه بالفعل «دوار الست» تستقبل فيه ضيوفها أكابر الموسيقى والفن المصرى ليصنعوا مجدًا لم ولن يتكرر.

بعد هذا التاريخ بـ١٥ عامًا وتحديدًا سنة ١٩٤٩ كانت أم كلثوم تهنئ مخرجها المفضل أحمد بدرخان على فيلته الجديدة، التى صممها بنفسه كما قال فى الخبر المنشور فى مجلة «الكواكب»، وكان مكانها بجوار «ستوديو الأهرام».

عاشت أم كلثوم فى فيلتها الجميلة على نيل الزمالك حتى وفاتها سنة ١٩٧٥، بينما عاش أحمد بدرخان مستمتعًا بفيلته حتى وافته المنية سنة ١٩٦٩ عشية عرض فيلم «نادية» آخر أفلامه ولعبت بطولته سعاد حسنى.

وتلك الأخيرة سندريلا الشاشة كان للقدر تصاريفه التى جعلتها الساكنة الجديدة لفيلا بدرخان بعد وفاته عندما تزوجت ابنه على بدرخان بعدها بعام وتحديدًا سنة ١٩٧٠.. لتصبغ سعاد على فيلا بدرخان روحها وتصبح مكمن أسرارها لمدة ١١ عامًا حتى طلاقها من على.

الفيلتان، «فيلا الست» على نيل الزمالك و«فيلا بدرخان» فى شارع الهرم، كانت لهما نهايتان دراماتيكيتان متشابهتان فى بؤسهما وذلك بعد وفاة الجميع.. أم كلثوم وبدرخان الكبير وسعاد حسنى.

فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات قامت الدنيا ولم تقعد على خبر بيع الورثة «فيلا الست» لأحد رجال الأعمال العرب ثم لشركة مقاولات مصرية بغرض استغلال المكان فى إنشاء برج شاهق على نيل الزمالك بعد هدم الفيلا.. لكن ثورة الناس لم تغيّر من الأمر شيئًا، وعاش الجميع كابوس تحوّل الفيلا، التى صممها أهم معمارى مصرى على الإطلاق مصبغًا عليها روح أهم سيدة مصرية على الإطلاق أيضًا، إلى رماد.. ولم يشفع لمعاول الهدم إطلاقهم اسم أم كلثوم على المبنى القبيح الذى أنشأوه مكانها ولا التمثال منزوع الروح للست أسفل المبنى.

ومرت السنون وأصبغ النسيان ستاره على ما حدث لـ«فيلا الست».. حتى تكرر الأمر بعدها بحوالى ثلاثين عامًا ولكن فى شارع الهرم حيث على بدرخان الذى عاش فى فيلا أبيه كل عمره وصنع مع سعاد حسنى أفضل الذكريات داخل أروقتها، كان قد قرر أن يلقى كل هذا خلف ظهره بعد أن حاصرته الأبراج غير المرخصة فى شارع «ستوديو الأهرام» ليشعر بأن وجود فيلة أبيه وبيت حبيبته سعاد حسنى أصبح نشاذًا فى وسط كل تلك العشوائية.. وفى لحظة يأس باع على الفيلا لأحد هؤلاء المقاولين الذين احترفوا تحويل الجمال إلى قبح.

وعن الدار وحبايبها الذين راحوا نتحدث.. ونقلب فى أوراق الصحف لا لنجتر الأحزان ولكن لنستلهم العبر.

دوار الست إعلان فى الصفحات الأولى عن بيع وحدات برج أم كلثوم يخرج لسانه للجميع

صدرت جريدة «الوفد» يوم ٤ أبريل سنة ١٩٨٥، وفى صدر صفحتها الأولى إعلان على عمودين.. الإعلان عبارة عن بيان من الشركة العقارية للإنشاء والتعمير «بيتكو»، لصاحبها أحمد إبراهيم وشركاه، عن آلية لتقسيم ٧٠ شقة داخل برج أم كلثوم، وعنوانه ٥ شارع أبوالفدا فى الزمالك، بطريقة التورتة نظرًا للإقبال الشديد على حجز تلك الشقق تحديدًا لمساحتها الكبيرة «٥ حجرات وصالة».. قامت الشركة بتقسيم السبعين شقة إلى ثلاث شرائح، الأولى ٢٠ شقة للمواطنين المصريين المقيمين داخل مصر، والشريحة الثانية ٣٠ شقة للمواطنين العرب بواقع ٢ شقة لكل دولة عربية كحد أقصى، و١٠ شقق للمواطنين بأمريكا وأوروبا.

بالطبع صيغة الإعلان تدل على الإقبال التاريخى من كل أنحاء العالم لحجز شقة فوق أنقاض فيلا الست أم كلثوم.. وهو ما بدا أن الصفقة رابحة جدًا لأحمد إبراهيم وشركاه وهو الرجل الذى آلت إليه الفيلا من رجل الأعمال السعودى الذى اشتراها من ورثة الست قبلها بثلاث سنوات.

إعلان «الوفد» على قدر ما حمل من معنى جميل وهو السباق على ما تبقى من رائحة أم كلثوم.. لكنه حمل أيضًا بؤسًا ومرارة لا تخفى على أحد، خاصة أنه كان أشبه بإخراج لسان لكل من تضرر وقتها وأذاه أن تتحول «فيلا الست»، التى شهدت كل معجزاتها، إلى أنقاض ليخرج مكانها نبت شيطانى قبيح يدر على صاحبه أموالًا، لكنه ينتقص من قدر بلد بأكمله.. كما كان الإعلان تحديًا سافرًا لكل مَن سار فى ركاب الحملة الشعبية المستنفرة بداية الثمانينيات لإيقاف عملية هدم «فيلا الست» وصلت إلى قضية أخذت فترة طويلة فى القضاء. تحوّلت قصة هدم فيلا أم كلثوم إلى قضية قومية، الكل يتحدث عنها، والسؤال لا يتوقف: لماذا فرّط الورثة فى هذا الكنز الثقافى والإنسانى بتلك البساطة؟.. ويتبعه سؤال آخر كالتوأم الملتصق: كيف تترك الدولة الأمر ولا تتدخل بقوة القانون؟

لكن الأمر الواقع دائمًا ما يفرض نفسه لأن القانون وقف مشلولًا.. حيث إن الفيلا فى النهاية قد آلت إلى الورثة بشكل قانونى تمامًا، ومن حقهم أن يتصرفوا فيها كيفما يتراءى لهم.. وهم على ما يبدو لم يدركوا قيمة المكان المكتسبة من قيمة صاحبته التى سكنته أكثر من ٤٠ عامًا ولم تخرج منه إلا إلى مثواها الأخير. الوجدان الشعبى حينها شيطن الورثة وحملهم الأمر كله، خاصة الأستاذ الدسوقى إبراهيم ابن أختها الكبرى والرجل الذى كان يظهر كثيرًا مع الست وكان يبدو اعتمادها الكبير عليه، وله صورة شهيرة يراقصها.. لذلك كان اللوم الأكبر عليه على اعتبار أنه الأولى بالدفاع عن تراث أهم سيدة عربية فى القرن العشرين وأكثرهن تأثيرًا، وهى فى ذات الوقت خالته التى احتضنته منذ صغره.

كان لا بد لـ«الدسوقى إبراهيم»، المتهم الأول، أن يرد عن ذلك الاتهام الخطير، والرد حملته الصحافة الورقية أيضًا كما حملت قبل ذلك الهجوم الشديد عليه مع باقى الورثة.

ابن أخت الست: عرضنا على يوسف السباعى تحويلها إلى متحف لكن تم تجاهلنا

علمتنا الصحافة الورقية أن كل حقيقة لها وجوه كثيرة.. فما تقرأه فى عدد من جريدة.. من الممكن أن تقرأ عكسه فى نفس الجريدة فى اليوم التالى بعد تكشف حقائق جديدة.. ومن هذا المنطلق صدرت مجلة «الكواكب» فى عدد أول فبراير سنة ١٩٨٣ وهى تحمل بين طياتها انفرادين بخصوص قضية الساعة حينها وهى هدم فيلا أم كلثوم.

الانفراد الأول كان بعنوان «الكواكب تدخل غرفة نوم أم كلثوم والفساتين التى أحيت بها حفلاتها» وتجيب عن السؤال الذى شغل مصر كلها:

ما هى قصة فيلا أم كلثوم ولماذا باعها الورثة؟

قام بالتحقيق الصحفى الرائع سيد فرغلى وصوره محمد سيف، وكان لب التحقيق حوارًا مطولًا مع المتهم الأول فى جريمة التفريط فى فيلا أم كلثوم وهو ابن أختها الدسوقى إبراهيم.. الذى يكشف لنا فى حوار «الكواكب» أنه هو الذى نقل كل مقتنيات فيلا أم كلثوم إلى بيته الكائن فى ١٨ شارع محمد مظهر بالزمالك على مقربة من الفيلا المغدورة.

ويقول صحفى «الكواكب» إنه عندما ذهب إلى بيت الدسوقى إبراهيم اكتشف أن الرجل وزوجته احتفظا بكل شىء يخص الست تمهيدًا لتسليمه لمن يهمه الأمر، وهى الأشياء المعروضة حاليًا فى متحف أم كلثوم من أول غرفة نومها بالترابيزة والكراسى وحتى المناديل التى غنت بها جميعها.

«فرغلى» لم يضع وقتًا وطرح اتهامه فى وجه «الدسوقى» عن بيع الفيلا بهذا الشكل المهين لتاريخ الست، فجاءت ردود الرجل متأرجحة بين المنطقية وانعدامها.. حيث قال فى البداية إن خالته «كوكب الشرق» كانت تفكر قبل رحيلها مباشرة فى هدم الفيلا وبناء عمارة عائلية مكانها تجمع فيها أسرتها بالكامل.. لكن لظروف ما، على حد قول الدسوقى، توقف المشروع فاشترت الست قطعة أرض مساحتها ٩٠٠ متر فى المقطم لتكون بديلًا لهدم الفيلا.. ولكن المشروع لم يتم أيضًا والأرض لا تزال موجودة.

وهو كلام فى حقيقة الأمر غير وجيه، لأن الست أم كلثوم كانت تعتز بكل حجر فى تلك الفيلا التى بنتها على عينها وبإشراف كامل لها مع أهم مهندس فى مصر فى الثلاثينيات، وهو المهندس على لبيب، المعمارى الأشهر.

ثم يكمل الدسوقى إبراهيم قذائفه دفاعًا عنه وعن أسرته، حيث يقول إن الأسرة بعد وفاة الست مباشرة عرضت على يوسف السباعى، وزير الثقافة وقتها، أن تمنح الفيلا إلى الوزارة لتحويلها إلى متحف مفتوح لكوكب الشرق، لكن الأمر لم يؤخذ بالجدية الكافية حتى اُغتيل «السباعى»، وبعد ذلك أعدنا الكرة مرة أخرى، والكلام على لسان الدسوقى، وعرضنا الأمر على الوزير الذى أتى بعده، فشكّل لجنة قالت إن الفيلا لا تصلح أن تكون متحفًا، ثم بعد ذلك كلف الرئيس الراحل أنور السادات الدكتور عبدالعزيز حجازى، رئيس الوزراء وقتها، بإقامة مجمع ثقافى يحمل اسم أم كلثوم فى شارع الجمهورية يضم متحفًا لها ومكتبة موسيقية ومسرحًا وسينما وقاعة استماع.. ولكن حتى هذا المشروع مات بالسكتة القلبية، على حد وصف الدسوقى إبراهيم لمحرر «الكواكب».

واستمر «الدسوقى» فى دفاعه عبر صفحات التحقيق الخمس وقبل نهايته سأله محرر «الكواكب» عن تركتها وبكم قُدرت؟.. أجاب «الدسوقى» بالنص كما كُتب فى «الكواكب» منذ ٤٠ عامًا: «قدرت التركة بمليونى جنيه عند وفاتها.. وهى تضم الفيلا وأرض المقطم و٥٠ فدانًا فى طماى الزهايرة، إلى جانب المجوهرات وبعض التحف، وحصّلت الضرائب مليون جنيه تركات وأنا وأشقائى.. سعدية ومحمد وعبدالمنعم وسكينة وممدوح ورفعت.. لم نرث خالتنا أم كلثوم.. وإنما ورثتها أمنا شقيقتها الكبرى (سيدة)، وزوجها الدكتور حسن الحفناوى، ثم ورثنا نحن أمنا التى ماتت فى العام الماضى وبالتحديد فى ١٠ مارس ١٩٨٢».

فيلا السندريلا بناها بدرخان الكبير فى الأربعينيات وعاشت فيها سعاد فى السبعينيات

يوم ٢٣ أغسطس ١٩٦٩ حيث كانت ليلة العرض الأول لفيلم سعاد حسنى الجديد «نادية»، الذى أخرجه أحمد بدرخان وكان يساعده ابنه الشاب على بدرخان، خريج معهد السينما.. صناع الفيلم كانوا ينتظرون ردود أفعال الجمهور.. لكن ما لم ينتظروه كان خبر وفاة المخرج أحمد بدرخان المفاجئ دون أن يشاهد فيلمه الأخير.

مرت أشهر على عرض الفيلم ووفاة مخرجه حتى فوجئ الوسط بخبر جديد يربط اسم سعاد بـ«بدرخان آخر» وهو على، ابن الفقيد ومساعده ووارث فيلته البديعة التى بناها فى نهاية الأربعينيات بجوار «ستوديو الأهرام» وصممها بنفسه كما قال لمجلة «الكواكب» حينها.

الخبر الجديد هو عقد قران سعاد حسنى «السندريلا»، وأمل كل الشباب حينها، على المخرج الشاب على بدرخان.. ليعيشا معًا سنوات وصلت لأحد عشر عامًا كانت أغلبها داخل فيلا بدرخان التى وجدت فيها سعاد ضالتها وكانت تحب السكنى فيها عندما كانت الأيام غير الأيام، وكان شارع «ستوديو الأهرام» المتفرع من شارع الهرم آية فى الجمال والرقى وملاذًا آمنًا لكل من خنقه زحام وسط البلد.

نترك القرن العشرين برمته ونقفز إلى الحقبة الثانية من القرن الواحد والعشرين، حيث تسرب خبر على بعض المواقع عن قرار المخرج على بدرخان ببيع الفيلا التاريخية والتخلى عن ذكرياته بها مع السندريلا، وكان المقابل المتداول حينها سنة ٢٠١٤ هو مليون جنيه من أحد المقاولين الذى ينوى هدمها والخروج ببرج شاهق غير مرخص يكسب من ورائه الملايين.

مرت ٣ سنوات، وتحديدًا سنة ٢٠١٧، وظهرت صور أخرى حزينة للفيلا على المواقع وهى مهجورة وأشجارها، التى كثيرًا ما استظلت تحتها السندريلا.. بالتأكيد قد انتزعت وبقيت جذوعها تشكو ما حدث.. وتحولت الحديقة، التى كانت ملاذ سعاد على مدى ١١ عامًا، إلى أرض مهجورة تسكنها كلاب شارع «ستوديو الأهرام» الضالة.

وعلى ما يبدو أن المقاول الذى اشتراها لم يكن حتى لحظة ظهور تلك الصور البائسة قد أنهى إجراءاته لبناء برجه الشاهق الكئيب على أنقاض «فيلا بدرخان»، ملاذ السندريلا الآمن.

 

مقاول هدم فيلا الست: كنت أتمنى تحويلها لمتحف وتعجبت من بيع الورثة لها

الحاج عبدالودود محمد، أشهر مقاول هدم فى مصر فى الثمانينيات، وضعه القدر فى اختبار لا يُحسد عليه.. حيث أوكلت إليه الشركة المالكة أرض فيلا أم كلثوم عملية هدمها لبناء برج شاهق على نيل الزمالك.. «الكواكب» واصلت انفراداتها بحوار الرجل وابنه كريم عبدالودود لتعرف رأيهما فى هدم الفيلا.

الغريب أن عبدالودود وكريم كان لهما نفس الرأى، حيث كانا أكثر حزنًا على ضياع الفيلا من الورثة أنفسهم.. لكن ما باليد حيلة فهذا عملهما، حيث قال الأب بمرارة شديدة نصًا: «كنت أود ألا يتعجل الورثة فى أمر بيعها، لتكون ذكرى لفنانتنا العظيمة كجزء مع تراثها وذكرياتها، ويتم تحويلها إلى متحف».. ثم يسكت قليلًا.. ويعاود كلامه: «لكن ماذا أفعل؟.. لو كنت مقبلتش هدمها كان غيرى هيقبل.. لأن، كما تعرف، الهدم مهنتى الأساسية».

يأخد الابن كريم طرف الحديث من أبيه، ويبدو أنه أكثر تعليمًا وثقافة منه، حيث يعرب عن حزنه الشديد لوضعهما فى هذا الموقف الصعب، كما يقول كريم ما هو أبعد، إنه لم يعد يسمع أغنية الأطلال: «لأننى أشعر بحزن شديد وكأن الست تتنبأ بمصير هذه الفيلا».

ثم ينهى محرر «الكواكب» حواره مع الحاج عبدالودود بسؤاله: هل كنت من سميعة أم كلثوم؟.. يجيب الرجل بحماس: «طبعًا.. أنا أسمعها منذ سنة ١٩٤٥.. وأول حفل حضرته لها فى ذلك الوقت كان فى مسرح حديقة الأزبكية عندما غنت (أهل الهوى)، وبعد كده أصبحت مدمنًا حفلاتها وأغانيها.. وأعود فأكرر.. كنت أتمنى ألا تهدم فيلتها لتبقى ذكرى غالية من ذكرياتها».