رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحويشة العمر

رغم ما يوصف به المصريون من ميل نحو الاستهلاك، إلا أن تاريخهم البعيد والقريب يشير إلى ولعهم بالادخار، ومراكمة المال، وإخفائه تحت البلاطة فى أماكن غير متوقعة، بحيث لا يستطيع الطامعون الوصول إلى «تحويشة العمر» بسهولة. «تحويشة العمر» جزء من ثقافة المصريين، وأيًا كان حجم هذه التحويشة فإنها تمثل جزءًا من تفكير الإنسان المصرى ونظرته الآمنة إلى المستقبل، فالتحويشة الكبيرة تمنح صاحبها الثقة والاطمئنان أمام تقلبات الحياة وتحولاتها، أما التحويشة القليلة فلا بأس بها، انطلاقًا من أن «القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود». 

ورغم ما يمنحه المال للمدخر من إحساس بالثقة والاطمئنان أمام تقلبات الحياة، إلا أنه يتسبب فى إصابة صاحبه بالقلق. فمن يملك أشد قلقًا ممن يعيش على فيض الكريم، وكل زيادة فى المال تعنى المزيد من القلق لدى صاحبه، فيخطط بكل الطرق من أجل حفظ ماله من الطامعين، والقاسم المشترك الأعظم بين المصريين على هذا المستوى يتمثل فى اللجوء إلى إخفاء المال فى أماكن لا ترد على بال أحد، ويظل أمر هذه الخبيئة سرًا داخل صدر صاحبه، وقد يعيش عمره يدبر أمرها ويمدد حجمها ويموت سرها معه، وقد يفضى بأمرها إلى من يأتمنه، مما ييسر عملية الحصول عليها حال اختفائه بسبب الوفاة أو لغيرها.

حكايات التحويش فى مصر قديمة قدم معرفة المصريين للذهب والفضة والمقتنيات الثمينة، وهى تجد أصلها لدى الفراعنة الذين حرصوا أشد الحرص على دفن ثرواتهم معهم بعد مغادرة الحياة، هذه العادة الفرعونية بدفن المال فى باطن الأرض أو تحت البلاطة ظلت موجودة لدى المصريين بصور وأساليب مختلفة، تباينت من عصر إلى عصر ومن فترة زمنية إلى أخرى. 

جانب من ثروات أغنياء المصريين كان مصدرها اجتهاد أصحابها، وسعيهم الحثيث فى الحياة من أجل تحقيق المال، وما تمتعوا به من قدرة على الادخار وتهذيب نوازعهم الاستهلاكية، لكن هناك من أُثرى من النبش والتفتيش عن دفائن الآباء والأجداد من الفراعنة، فعثر على كنوز أخفاها أصحابها تحت البلاطة. فخبيئة المال التى تعد ملمحًا من ملامح حياة المصريين أحيانًا ما كان يعتمد البعض فى جمعها على الجد والاجتهاد، فى حين يعتمد آخرون على الفساد فى حصدها.

وما يدلك على أن دفن الثروات واكتناز الكنوز تحت الأرض مثّل ملمحًا أساسيًا من ملامح مصر القديمة ذلك البيان الذى أصدره عمرو بن العاص بعد فتح مصر، حين وجّه أوامره إلى الأقباط قائلًا: «من كان عنده كنز وكتمه عنى ضربت عنقه». هذا الكلام نقله «ابن إياس» عن «ابن عبدالحكم»، ولا نستطيع أن نقرر بحال هل كان المقصود بالمطلب الذى أمر به عمرو هو الثروات الشخصية لأغنياء القبط، أم الثروات التى نشأت عن الفساد، أو عن طريق النبش فى الدفائن الفرعونية، ولا نستطيع أن نقرر هل كان «عمرو» يجمع هذه الثروات لحساب الخلافة التى كان يجلس على منصتها عثمان بن عفان حينذاك، أم لصالحه الشخصى، خصوصًا أن من المعلوم أن عمرو بن العاص مات عن ثروة كبيرة. يقول «ابن إياس» فى «بدائع الزهور» إن عبدالله بن عمرو سُئل عن ثروة أبيه «ابن العاص» بعد وفاته فقال: «كان سبعين جربًا من جلد ثور كاملة».

وصلت معلومات إلى عمرو بأن هناك قبطيًا اسمه «بطرس» عنده كنز عظيم يختزن فيه ثروة كبيرة، فأرسل الوالى إلى القبطى من يقوم بإحضاره، ثم سأله عن الكنز الذى يخفيه، فأنكر القبطى الأمر، وأكد له أنه لا يملك شيئًا، فأمر عمرو بسجنه، فسُجن أيامًا دون أن يقر بمكان كنزه، وطرأت فكرة على رأس عمرو استدعى على أثرها حراس السجن الموكلين ببطرس، وسألهم إن كان قد ذكر أحدًا من أصحابه خلال مدة حبسه، فردوا بالإيجاب، وقالوا له إنه يذكر راهبًا فى «الطور»، فأرسل «عمرو» إلى «بطرس» فى السجن وأمره بخلع خاتمه، ثم أرسله مع بعض حراسه إلى الراهب، يطلبون منه إرسال وديعة «بطرس» التى عنده بأمارة هذا الخاتم، فلما رأى الراهب خاتم بطرس اطمأن لهم وأعطاهم خبيئة الرجل. 

الأمر اللافت أنه بعد عدة قرون شهدت المحروسة حوادث شبيهة، وعلى بعد المسافة الزمنية ما بين زمن الوالى عمرو بن العاص والوالى محمد على، فقد لجأ الوالى الأخير إلى مطاردة أصحاب الثروات ممن تعودوا على دفن ما يملكون من مال تحت البلاطة. كان الباشا فى ذلك الوقت يؤسس لمشروعه التحديثى ويحتاج إلى الكثير من المال لإنفاذ مراحله، ولم يجد بدًا من أن يعتمد على الأهالى، فبعد أن جمع الضرائب من صغارهم حتى لم يبق هناك أى مزيد يمكن حلبه منهم، اتجه إلى أغنيائهم، وفرض عليهم دفع مبالغ معينة. أحدهم كان قبطيًا ثريًا يخفى ثروته فى مكان لا يعلمه أحد، طلب منه محمد على دفع مبلغ معين، فزعم أنه لا يملك من حطام الدنيا شيئًا، فما كان من ابن الوالى «إبراهيم باشا» إلا أن جلده بقسوة، وكان رجلًا ضعيفًا مريضًا فكاد أن يهلك، وتواصلت عملية الجلد والرجل صامد لا يريد أن يلين، حتى كاد الوالى أن يصدقه، لكن مفاجأة وقعت، حين تم تركه ومراقبته، فوجد عسس الوالى أنه يخفى خبيئة مالية ضخمة داخل أحد الحمامات العمومية، فوضع الوالى يده عليها.

ظلت عادة دفن الأموال تحت البلاطة أو فى أماكن لا يتخيلها أحد سمة أساسية من سمات الشخصية المصرية، وما أكثر ما سمعنا فى الماضى من حكايات عن بائع «روبابيكيا» تحوّل إلى مليونير، حين عثر على أموال مكدسة فى مرتبة سرير اشتراها «خردة» من إحدى الأسر، التى كان عائلها يخفى ماله بعيدًا عن أعين زوجته وأولاده، ومات دون أن يفضى إليهم بسره، فذهب مال الكنزى إلى النزهى. تحويشة العمر فى حياة المصريين لا تفنى ولا تستحدث من عدم.