رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مجالس لحكماء وشيوخ المهن

اتسم زمننا بسرعة الإيقاع التي تُفقد البشر قيمة المشاعر الإنسانية النبيلة، وصرنا- للأسف الشديد- نعيش عصرًا تغلب عليه المادية، وزمنًا لغته الرسمية هي لغة المصالح الشخصية الضيقة، أمر كانت تذيبه جلسات المصاطب في القرى ساعة العصاري أو سهرات المقاهي في المدن بعيدًا عن وسائل التواصل ووسائط الإعلام، ومن هنا فإن البحث عن أي آلية تذكّرنا بأخلاق وذكريات وشخوص الماضي القريب صار أمرًا ملحًا وضروريًا علينا أن نستدعيه ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا.
وعلى هذا فكم أتمنى أن تبادر جهات العمل وعلى رأسها النقابات إلى لم شمل أجيالها المتلاحقة في لقاءات قد تأتي في صورة ندوة أو ملتقى أو محكى أو مؤتمر أو حتى مأدبة تكريم أو حفل فني، لكنها في النهاية– أيًا كان المسمى- جلسات ود تجمع أرباب المهن وأصحاب الرؤى وذوي التوجهات الفكرية المتشابهة من الكبار والصغار للحديث في الشأن العام الذي يخص كل فئة يجمع بينها ما يشغلها مهنيًا أو اجتماعيًا أو فكريًا، على أن يكون ذلك بعيدًا عن فكرة الجدل العقيم الذي غذّته في مجتمعنا مؤخرًا برامج التوك شو، التي لا نخرج منها في النهاية إلا بمزيد من الشحناء والتباغض حيث ننتهي إلى لا شيء. 
ولا بد أن يزين تلك الجلسات حضور فاعل لشيوخ كل طائفة بحيث يتصدرون الجلسة ويحركون دفة الحوار من نقطة إلى أخرى ومن محور إلى غيره. فكلما جمعني- أو إياكم- لقاء بأحد أو بعض شيوخ مهنتنا نستشعر قيمة هؤلاء الأساتذة وندرك أن تواصل الأجيال حق للشباب وواجب على الشيوخ. ذلك هو انطباعي الأول كلما أسعدني حظي بلقاء يجمعني ببعضهم، والجميل في مثل تلك اللقاءات أن تنصت أكثر مما تتحدث. فشيوخ أي مهنة أو ميدان عمل كنز علينا أن ننهل منه، وأن نصنع نحن المناسبات ونفتعلها ليتحقق لنا هذا.
فلقاء يجمع بين أجيال أي مهنة أو حرفة أو صنعة لا بد أن ينتهي بخير كبير وفائدة عظيمة لشباب تلك المهنة بمجرد سرد الشيوخ لذكرياتهم ونوادرهم وتجاربهم التي مروا بها غير أن لقاءً بهذه النوعية قد يكون صعب التحقق، إما لظروف مادية أو لوجستية أو صحية قد تمنع الأساتذة من النزول من بيوتهم حيث موطن الخلود للراحة والصفاء الذهني بعد عقود طويلة من العمل العام.
ومن هنا فإن على الكيانات النقابية والمهنية أن تسعى هي لتنظيم مثل تلك المنتديات. وأرى أن حصافة مديري تلك المجالس ستكون عنصرًا فاعلًا في نجاحها، فالأمر لا ينبغي أن يدور في إطار الندوة التقليدية، بل هي جلسة ود يتحلق فيها الجميع حول أحد رموز هذه المهنة أو تلك، والبطل الحقيقي في تلك المنتديات ستكون حنكة صاحب الدعوة في طرح الموضوعات وفتح محاور متعددة بصورة تبدو عشوائية وغير مرتبة إذ هي السبيل لاسترسال الشيخ في الحديث. وفي الوقت ذاته يكون صمت الحضور– في غير موضع لحديثهم– مدعاة لتدفق الحكيم الذي يتزين المجلس بحضرته.
فكرتي هي شيء أشبه بمجالس المتصوفة الذين يجلسون حول شيخ الطريقة في إنصات وتوقير يجلونه ويمتثلون لمجرد إشارة منه. على أنه من الواجب أن يدرك الحضور من الشباب أو الأحدث سنًا أن مثل تلك اللقاءات لا تنعقد لعمل ندوة تبث إعلاميًا فيحاول أحدهم أن يبدو من المتفيهقين وأصحاب الحجج القوية والآراء الصائبة فيعلي من صوته على أصوات الشيوخ، أو أن يأتي أحد مرضى النفوس ممن قد يحمل ضغينة للشيخ منذ كان في سلطته ليتندر أو يحرج أو يجرح أو يتشفى من الأستاذ ضيف شرف الجلسة.
وليست الفكرة التي أطرحها مجرد خيال أو حلم أتمنى تحقيقه، لكن حدث في العدد 33 مكرر من الجريدة الرسمية بتاريخ 20 أغسطس 2014 أن تم نشر نص قرار م. إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء حينها والقاضي بتشكيل مجلس للحكماء في كل محافظة برئاسة محافظ الإقليم وعضوية مديري المديريات فضلًا على حق رئيس المجلس في دعوة من يراه من ذوي الخبرات والشخصيات العامة. 
ولكنني أسأل: هل تم تفعيل هذه المجالس أو دعيت للانعقاد فأصدرت قرارات أو حتى توصيات وتقارير دورية كما نصت المادة الثالثة من قرار التشكيل؟ وهل يمكن أن يعاد التفكير في الفكرة بحيث تتوسع قاعدة عضوية تلك المجالس ويعاد صياغة اختصاصاتها الواردة في المادة الثانية من القرار؟ وبغض النظر عن هذه المجالس الرسمية أو شبه الرسمية التي قد يقال إن تشكيل مجلس الشيوخ صار يجبها الآن، فهل يمكن أن يُفعّل المجتمع المدني بنقاباته وجمعياته ومؤسساته هذه الفكرة بحيث يتم تناقل الخبرات وتبادلها بسلاسة ومحبة من جيل الأساتذة إلى الأجيال التي تليه؟ إنها في نظري حوار وطني من نوع آخر، حوار لا يكترث بالسياسة ولا يعبأ بها، لكنه يسعى لتبادل الخبرات المهنية والحياتية والاجتماعية. وتلك مهمة تفرضها الضرورة بعد أن غلبت المادية وإيقاع الحياة السريع ففرض نفسه على الجميع ليصير الجانب الإنساني والاجتماعي هو آخر ما نفكر فيه رغم أهميته.