رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رائحة الأسماء 2

وهل للأسماء رائحة؟!، ولها ذكريات وتفاصيل وقصص ومكان نحفر له مساحة فى الوجدان، وربما حمل الاسم رائحة شجن وحزن وألم قديم، وربما كانت الفرحة والراحة النفسية والبهجة مسكونة بين حروفه، وربما أحاطت هالة قدسية به فيمتلك سحرًا خاصًا يفوح وينساب مكللًا بالورد والياسمين، وهناك أسماء تفيض منها أرواح طيبة وأخرى غير ذلك.. وها أنا أحاول تشمم رائحة الأسماء فى رحلة قد تطيب لك، ونعثر معًا على ذكرى حلوة فى هذه الأيام المباركة.

عبدالله

ليس فى هذا الاسم سوى تضرع خفى، واعتراف ضمنى بأنك أمام عبد طائع لله، لكن هذا الأمر يستقيم مع شخص طبيعى، وليس مريضًا بهوس هذا الاسم الذى يثير الحزن فى نفسه، ولعن الله ذاكرتى التى لا تحتفظ إلا بذكريات مؤلمة ارتبطت جميعها بعبدالله بن أبى السرح الذى دخل مصر فى عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان فأفسد فيها وقتل وشرد، ودخل صراعًا شرسًا مع الوالى المعزول عمرو بن العاص على حساب أهل مصر من الأقباط والمسلمين، لدرجة أنهم كانوا أول الثائرين ضد عثمان لما لاقوه من ظلم وجبروت مع هذا الخبيث الماكر الذى لا يمكن لمسلم أن يحترمه إذا عرف ماذا فعل فى رسول الله، وكيف ارتد عن الإسلام، وكيف خرج نبى الرحمة محمد، صلى الله عليه وسلم، عن شعوره وهو يطالب الصحابة بقتل هذا الخبيث الذى أشاع فى مكة أنه يكتب الوحى على مزاجه، فقد كان عبدالله بن أبى السرح واحدًا ممن يُملى عليهم النبى وحى السماء، فهرب ذات ليلة من المدينة إلى مكة، وأشاع ما نقله الكاتب خالد محمد خالد فى كتابه «إسلاميات»، وما نقله طه حسين فى الجزء الثانى من «الفتنة الكبرى»، عن ابن إسحاق أيضًا:

«حدثنى بعض علمائنا أن ابن أبى السرح رجع إلى قريش، فقال: والله لو أشاء لقلت كما يقول محمد، وجئت بمثل ما يأتى به، إنه ليقول الشىء وأصرفه إلى شىء، فيقول: أصبت. ففيه أنزل الله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ»، لذلك أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم بقتله.

وظل عبدالله بن أبى السرح على كفره حتى فتح مكة، إذ جاء به عثمان بن عفان إلى مجلس النبى يطالبه بالعفو عنه بعد أن تاب وأناب، فأشاح النبى بوجهه الكريم بعيدًا، وفى الحديث الذى رواه سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قَالَ: 

«لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، اخْتَبَأَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى السَرْحٍ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَجَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَايِعْ عَبْدَاللَّهِ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى. فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِى كَفَفْتُ يَدِى عَنْ بَيْعَتِهِ، فَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالُوا: مَا نَدْرِى يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِى نَفْسِكَ، أَلا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِى لِنَبِى أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ».

وطالب بعض الصحابة بإقامة الحد عليه أولًا، لكن عثمان بن عفان تعهد للجميع بحسن إسلامه وكان واحدًا من الطلقاء الذين عفا عنهم النبى مع أبى سفيان وهند بنت عتبة.

رواة السيرة يقولون إن عثمان كان أخًا لعبدالله بن أبى السرح فى الرضاعة، وأنه لاذ مستنجدًا بعثمان ليرفع عنه غضب النبى، وليس هذا هو المهم، لكن المهم أن هذا المرتد الذى أشاع هذا القول عن وحى السماء جاء واليًا على مصر! ومتى؟! بعد عزل عمرو بن العاص، فكان على الوالى الجديد أن يثبت أن البقرة تحلب لبنًا أكثر مما كان يحلب منها عمرو بن العاص!، فراح يشد فى الضرع حتى نزف دمًا سائغًا للشاربين فى المدينة التى يصلها خراج مصر مضاعفًا!، وتضاعفت الضرائب فغضب المصريون من تلك المعاملة أشد الغضب وكتبوا إلى خليفة المسلمين عثمان بن عفان يجأرون بالشكوى من عبدالله بن أبى السرح، ويذكر الرواة أن الخليفة استمع إلى الشكوى ولم يفعل شيئًا! فتحول غضب المصريين إلى ثورة سيدفع الخليفة ثمنهًا غاليًا بعد حصاره فى بيته.

كانت أمصار أو أقاليم أخرى تجأر بالشكوى ضد عثمان بشكل عام. 

كان الخليفة الثانى عمر بن الخطاب قد اختار عمرو بن العاص واليًا على مصر، ودارت بينهما حوارات ورسائل متعددة، ذكرها الرواة حول قيمة الخراج الذى يبعث به عمرو بن العاص من مصر إلى مقر الحكم فى المدينة، وعندما جاء عثمان بقى «عمرو» واليًا على مصر، لكن عثمان بن عفان أرسل عبدالله بن أبى السرح على رأس الجيش الذى فتح إفريقيا، فاعتبرها عمرو بن العاص إهانة مباشرة له، فهو والى مصر، وقائد الجند، ولا يجوز غزو إفريقيا بقائد سواه، وأسرّها فى نفسه، لكنه لم يمنع نفسه من إعلان الغضب ضد عثمان مع بدايات فحيح الفتنة الكبرى، التى سيقتل فيها عثمان فى بيته، ويشارك أربعة فقط من الصحابة فى دفنه ليلًا حتى لا ينهش الغاضبون قبره! واستمرت ولاية عبدالله بن سعد نحو عشر سنوات، حتى جاء على بن أبى طالب فعزله، وأرسل قيس بن سعد بن عبادة واليًا على مصر.

الاسم يرتبط فى ذاكرتى- وللأسف- بعبدالله بن أبى السرح الذى أفسد وقتل وشرد وأهان الرسول الكريم

عاتكة

قبل أن أنتبه إلى صوت السائق ينادى المحصل: «الباب ورا يا أششف»، وبعد أن ابتسمت لقدرى فى أن يكون اسمى أشرف، وأن يجتمع كل العاملين فى هيئة النقل العام فى مصر على أن يكون هو الاسم «السيم» بين السائق والمحصل بلا مبرر أو هدف سوى العكننة، أقول لك قبلها كنت سارحًا فى الست «عاتكة»، وكيف حمل بدنها الكثير من الاسم الذى يعنى الجمال والوجه الحسن والخدود الريانة اللينة اللدنة كما الملبن فى الملمس، والورد والفل فى الرائحة، والرموش الناعسة والضحكة الفاتنة، وكانت عاتكة كذلك بلا شك، فإن لم تكن هى التى هام بغرامها وهواها «عبدالله بن عبدالرحمن بن أبى بكر» حتى نسى صلاته وقيامه، فمن تكون!

وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل، هى ابنة عم سيدنا عمر بن الخطاب، أسلمت فى مكة ثم هاجرت إلى يثرب، وهناك حيث براح المدينة وروح التفاؤل التى تعم المسلمين الأوائل رآها عبدالله بن الصديق أبى بكر، رضى الله عنه، وكانت فى صحبة أخيها الصحابى «سعيد بن زيد» فأعجبه جمالها وملكت عقله، وظل يراقب الطريق كى يراها كل ليلة، ورأى أبوبكر حال ابنه فعجل بزواجه منها، لكن الزواج لم يطفئ لهيب الحب والشوق والغرام، إذ ازداد الفتى حبًا وولعًا وانشغل بها ليل نهار، حتى شغلته عن صلاته! وبلغت الدراما أعلى مستوياتها حين قرر الصديق أبو بكر إجبار ابنه على طلاقها: «طلقها فإنها قد فتنتك»!، وطلّقها الفتى بالفعل وكتب قصيدة يبكى فيها حاله بعد إجباره على تطليق محبوبته.

كتب السيرة كانت بخيلة فى سرد تفاصيل قصة الحب هذه، ولم أعثر على ما كنت أبغى وأريد، لكننى انتقيت روايتين تكملان بعضهما وتقدمان الحد المعقول من تفاصيل القصة، الأولى فى كتاب «المستطرف لكل فن مستظرف» لـ«شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهى»، والثانية جاءت فى الطبقات الكبرى لابن سعد.

ويروى «الأبشيهى» القصة فيقول إن الصديق أبوبكر اختلى بابنه عبدالله فى غرفة له فقال: يا بنى إنى أرى هذه المرأة قد أذهلت رأيك، وغلبتْ عقلك فطلقها، وقال الابن مهزومًا: لست أقدر على ذلك، وأنشد وهو يبكى: 

- يقولون طلقها وأصبحُ مكانها

- مقيمًا تمنى النفس أحلام نائم

- وإن فراقى أهل بيت أحبهم 

- ومالهم ذنب.. لإحدى العظائم

فتركه الصديق أبو بكر وعاد إليه بعد يومين ورأى حاله، فقال: «أقسمت عليك إلا طلقها»، فلم يقدر على مخالفة أبيه فطلقها، فجزع- أى حزن عليها- جزعًا شديدًا، وامتنع عن الطعام والشراب، فقيل لأبى بكر: «أهلكت عبدالله»!، وكان الفتى قد هام فى البرارى، وإن جلس اضطجع فى الشمس مغنيًا أو مرددًا أو نائحًا: «فلم أر مثلى طلق اليوم مثلها، ولا مثلها فى غير ذنب تطلق»، وتقول كتب السيرة إن الأب ترفق بحال ابنه، وبكى عندما شاهده على هذه الحال، وأمره بمراجعتها، فأعادها إلى عصمته وعاشا معًا، لكن أحوال الفتى العاشق لم تتغير وظل هائمًا فى هواها سابحًا فى حسُنها وجمالها، وفى كل ليلة يشعر بأن شيئًا سيحدث يفرق بينه وبين «عاتكة» وكان يطلب منها، ألا تتزوج بعده إذا مات عنها، ولم يجد ما يسترضى به محبوبته كى تحافظ على عهده سوى أن أعطاها أرضًا كان يملكها.

وشهد عبدالله بن أبى بكر غزوة الطائف، وكان مقاتلًا بارعًا يخوض الحرب، ويحلم بأن يعود ليحكى لعاتكة عن بطولاته، لكن أبومحجن الثقفى، وما أدراك ما اسمه، رماه بسهم اخترق القلب، وظل جريحًا ينزف حتى مات رضوان الله عليه سنة ١١ هجرية، وحزنت عاتكة حزنًا شديدًا على زوجها الحبيب وقالت فيه شعرًا، لكنها كعادة الجميلات لم تصبر طويلًا، وتزوجت بعده عددًا لا بأس به من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وجميعهم استشهدوا عنها، لدرجة أن أهل المدينة كانوا يقولون: «من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة»، فقد تزوجها الفاروق عمر بن الخطاب بعد عبدالله بن أبى بكر واستشهد عنها، فتزوجها الزبير بن العوام ولحق بسابقيه.. والقصة جميلة بالفعل، وشغلتنى منذ سنوات، وكتبت عنها مرارًا، لكن عاتكة هذه المرة تتراءى أمامى بجسدها وعيونها وابتسامتها التى أمالت قلوب كل هؤلاء، لكن السائق «أششف» عاد ينادى من جديد على المحصل أششف.. علشان الباب ورا، وكان صوته سخيفًا بما يكفى للعودة من زمن عاتكة وجمالها.

على

وكلما تذكرت أن اسمى أشرف تعاطفتُ أكثر مع الذى اسمه «على»، هذا اسم ثقيل على حامله يا الله، إنسان عادى جدًا يتحرك وهو يحمل جلال الموت، وهيبة التضحية، وغُبن الحياة، وقسوة قلوب أهلها!! تأخذنى الشفقة على حامله بينى وبين نفسى بالطبع، ليس لرائحة إمام المتقين على بن أبى طالب، ولكن لحفيده «على بن الحسين بن على» رحمهم الله، فلم يبكينى مشهد استشهاد أحد أبطال كربلاء كما أبكانى «على»، كان فى التاسعة عشرة يا ولداه، تأخذه العزة والحماسة والعجب من المسلمين الذين يتركون والده كما تركوا جده.

ألسنا على حق يا أبتاه؟!

سأل «على» والده سيد شباب أهل الجنة، فأجابه الحسين بنعم، لكنه لم يقل له إن جده أيضًا كان على حق، كانت ليلة عصيبة ومُقبضة تلك التى وصل فيها سيد شهداء أهل الجنة إلى الكوفة، معتقدًا أن أهلها فى انتظاره، فلم يجد فى استقباله سوى الخيانة والغدر وجيش بن زياد يستعد للفتك به، بينما تبخر الأنصار والأعوان الذين وعدوه بالبيعة! بكى الحسين وأسلم أمره إلى الله، فغدًا يوم الشهادة لا محالة، طلب تأجيل القتال للصباح، ليجتمع مع ما تبقى من أنصار، وكانوا لا يزيدون على سبعين رجلًا سيواجهون جيشًا من أربعة آلاف جندى، «هذا هو الليل قد غشيكم فانطلقوا فى سواده قبل أن يطلع النهار، وانجوا بأنفسكم»، فالموت قادم لا محالة يرضاه لنفسه ولكنه لا يرتضيه على هؤلاء الصغار، فتقدم إليه ابنه على: «ألسنا على حق يا أبتاه؟!»

وأقبل اليوم المشهود.. العاشر من محرم، وصلى الحسين الفجر، ودقت ساعة الحرب، وبرز فرسانه الأبطال يواجهون جيشًا كاملًا فيردونهم للخلف، وتتعالى تكبيرات سيد شباب أهل الجنة وتهتز الأرض، ويصاب جيش ابن زياد بالجنون، فيندفعون كالثيران يدهسون أنصار الحسين، حتى انتصف النهار، فلم يتبق على أرض المعركة سوى أهل بيته، وكان «على» فى مقدمتهم يفيض حيوية ونضرة وشبابًا وحماسًا: أنا على بن الحسين بن على.. نحن ورب البيت أولى بالنبى، تمامًا كما كان يزأر جده، ها هو ابن التاسعة عشرة يضرب فى جيش ابن زياد، وها هم يتساقطون بسيف الفتى الصغير الذى يتقدم فى شجاعة، ويطعن الفئة الباغية، حتى حانت اللحظة ومرقت طعنة رمح من بطنه إلى ظهره فسقط على الأرض، وقبل أن يتحامل على جراحه لينهض كانت عشرات السيوف تمزق جسده الغض الصغير، ومن بعيد يرى الحسين المشهد الموجع المؤلم فيسرع نحوه، ومعه شباب بنى هاشم، وفى رباطة جأش وصبر يذهل كل حى حمل البطل ابنه الحبيب، ثم سجاه على ذراعى واحد من بنى عمومته، ولا تكاد الطاهرة البتول زينب بنت على، رضى الله عنها، ترى جثمان ابن أخيها حتى انكبت على أشلائه بدموعها وشجنها: «أهذا الذى كان من دقائق معدودة يملأ أرض المعركة»! دم على الصغير يستنصر دم جده الإمام، كلاهما ينزف الآن، نزف الإمام كثيرًا يا ولدى حين التفت إلى يساره فوجد السيدة عائشة أم المؤمنين تقاتله وتستعديه وتحرض الناس ضده، ومعها طلحة والزبير بن العوام!، ونظر إلى اليمين فوجد أهل الشام بقيادة معاوية يستعدون للخلاص منه! وضاقت الدنيا عليه كما لم تضق من قبل، عجيب أمر الصحابة والخلان، وغريب أمر العشيرة، هذا على، وذاك معاوية!، فمهما قال الناس عن إخلاص معاوية بعد إسلامه إلا أنه فى النهاية ممن أسلم بآخره كما كان يصف الناس الطلقاء الذين عفا عنهم النبى بعد الفتح، هو معاوية بن أبى سفيان قائد المشركين يوم أحد ويوم الخندق، وهو ابن هند التى دفعت لوحشى ثمن دم حمزة ثم بقرت بطنه ولاكت كبده، وهذا على ربيب النبى وحبيبه الذى استقبل بيعة الشيخين أبى بكر وعمر وبعدهما عثمان بنفس راضية رغم مرارة الرضا، هو على الذى أسكتّ الناس عن مبايعته ثلاث مرات ولم يقل أنا أحق بالخلافة، وفى الفتنة الكبرى لم يهرب كما فعل عمرو بن العاص، أو ينعزل كما فضّل معظم المسلمين الأوائل من صحابة رسول اجتنابًا للتورط فى دم المسلمين، واستعان به عثمان فى صرف المحاصرين بيته، فتكلم إليهم وذكّرهم بذى النورين الذى تزوج ابنتى رسول الله رقية وأم كلثوم، وتعهد لهم بتصحيح ما أغضبهم، وأُغمدت السيوف حين رقت القلوب لكلامه، لكن مروان بن الحكم حذر عثمان من إعلان التوبة والاعتذار، وخرج للناس يستفزهم، ويستثيرهم، ويحذرهم، ويستهين بهم، فهذا مُلك الأمويين ولن يجرؤ أحد على الاقتراب منه!

وكانت الكارثة الأولى، وقتل عثمان وهو يقرأ المصحف وفى موسم الحج، حيث كانت جموع المسلمين تؤدى مناسكها حين وصل الخبر المفجع، فاختار الكثير منهم العودة إلى مكة والابتعاد عن مواطن الفتنة، وهاجت الدنيا وظهر عبدالله بن سبأ، وتمت البيعة لعلى من أهل المدينة والعراق ومصر، وبقيت الشام التى رفض معاوية ابن أبى سفيان مبايعة أهلها الإمام قبل الثأر من قتلة الخليفة عثمان بن عفان! وهو الرأى الذى قالت به السيدة عائشة أم المؤمنين التى كانت فى طريقها إلى المدينة بعد تأدية المناسك، وفور علمها بمبايعة على قررت العودة إلى مكة واجتمع إليها الناس، وخطبت فيهم تحرضهم للثأر من قتلة الخليفة الثالث: «لقد غضبنا لكم على عثمان وعاتبناه، وتاب الله، ثم ثار ضده الغوغاء، حتى قتلوه، واستحلوا بقتله الدم الحرام، فى الشهر الحرام، فى البلد الحرام».

وتأثر الناس بحديثها، فهى أم المؤمنين، وحبيبة رسول الله، التى مات بين سحرها ونحرها، والتى برأها القرآن من حديث الإفك بعد أن تورط كثير من المقربين فى الحديث عنها، وكان بينهم شاعر الرسول حسان بن ثابت الذى تقول الروايات إنه كان ضمن المجلودين، وكان بينهم أيضًا «على» الذى يستعد الآن لأخذ البيعة من معاوية وأهل الشام، وبينما السيدة عائشة تخطب فى الناس وصل إلى مكة «خالد ابن المغيرة» لأخذ البيعة للإمام، فما كان من المجتمعين حول السيدة عائشة إلا أن مزقوا رسالة الإمام على، وضربوا خالدًا، وتجمعوا حول «الجمل» الذى تركبه السيدة عائشة فى جيش كبير، وهزمهم جيش الإمام على فى الموقعة التى سميت بالجمل، وفى موقعة صفين جرى التحكيم وتنكرّ عمرو بن العاص لأبى موسى الأشعرى، وخلع «على»، وثبّت معاوية، وجلس معاوية على عرش الخلافة، وعقد صلحًا مع الحسن بن على، وتعهد له بحقن دماء أهل العراق، ودخل معاوية الكوفة، وأخذ البيعة، وتعهد مجددًا بجعل الأمر شورى بين المسلمين، مقابل تنازل الحسن فى معاهدة سميت بعام الجماعة، ومات الحسن مقتولًا بالسم فى بعض الروايات، والعسل فى روايات أخرى، وفى نفس عام الجماعة هذا، جنح معاوية تمامًا وجعل الخلافة وراثية، وأخذ البيعة لابنه «يزيد» لتثور ثائرة الحسين بن على سيد شهداء أهل الجنة ويتأهب للخروج من مكة إلى العراق، لتبدأ دراما كربلاء وينفض الأنصار.. ويخيم الخوف والهلع، ويردد الفتى الصغير: «ألسنا على حق يا أبتاه؟».. ربما كنّا على حق يا صغيرى.. نم هانئًا مع الأطهار الأبرار.

لم يبكينى مشهد استشهاد أبطال كربلاء كما أبكانى مشهد استشهاد «على بن الحسين بن على» رحمهم الله

من كتاب : اسمى أشرف - تحت الطبع