رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المديونية العالمية.. الأزمة والانفجار المحتمل

جريدة الدستور

يبدو أن أزمة المديونية العالمية التي يعلو صوت طبولها كلما اقتربت من الأسوار، تتحين الوقت للهجوم والانضمام إلى جيش الأزمات الذي يلاحق البشرية.

تراكم الديون على المستوى العالمي يحدث حينما تتوسع الحكومات في الاستدانة بشكل أكبر من قدرتها على السداد. الأزمة في حد ذاتها توضح الاختلالات في هياكل اقتصادات الدول المستدينة، والفجوة بين ما تنتجه وما تستهلكه تلك الدول، وكذلك الفرق بين ما تدفعه للعالم الخارجي وما تحصل عليه في المقابل.

الولايات المتحدة تأتي على رأس الدول المدينة بحجم مديونية يتجاوز 30 تريليون دولار، وكانت تخوض معركة سياسية داخلية، خلال الأيام الماضية، بين الديمقراطيين والجمهوريين لتمرير تشريع يرفع سقف الدين العام بعد أن تجاوزته الحكومات المتعاقبة في تدبير إيراداتها.

بداية أزمة المديونية المتراكمة تعود إلى ثمانية عقود مضت تقريبًا، وتحديدًا منذ توقيع اتفاق "بريتون وودز" في الأربعينيات لتأسيس نظام اقتصادي عالمي.

واتفاق بريتون وودز "Bretton Woods Agreement" المعلن في مؤتمر بولاية نيو هامبشاير بالولايات المتحدة الأمريكية يوليو 1944 بين القوى الدولية المعروفة باسم الحلفاء، أسس رسميًا لزعامة أمريكية على اقتصاد العالم. ومع اعتراض سوفيتي وتأفف فرنسي وخضوع بريطاني، أنشأ هذا الاتفاق نظامًا ماليًا دوليًا جديدًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بقوة الأمر الواقع DE FACTO.

منذ إعلان الاتفاق الذي رسم ملامح السيادة الأمريكية على العالم وهيمنتها على اقتصاده في زمن "ما بعد انتهاء الحرب العالمية"، لم يشهد النظام العالمي أزمة أكثر عمقا وأسرع نموا من الأوضاع الاقتصادية المتأزمة التي يواجهها حاليا.

الهدف المعلن للاتفاق كان ضبط النظام المالي العالمي وتعزيز الاستقرار الاقتصادي. هذا الهدف استدعى تأسيس الأذرع المسئولة عن تطبيق السياسات وتنفيذها، لينشأ صندوق النقد الدولي "International Monetary Fund - IMF" والبنك الدولي للإنشاء والتعمير "International Bank for Reconstruction and Development - IBRD" كمؤسستين رئيسيتين تفرضان سياساتهما المالية والاقتصادية على العالم الذي أُريد له أن يكون أحادي القطبية، ذا اتجاه واحد، عقيدته ليبرالية، ومحركه رأس المال، وبوصلته السوق الحرة.

إنشاء صندوق النقد الدولي كان بغرض تعزيز الاستقرار المالي العالمي وتوفير التمويل اللازم للدول الأعضاء التي تواجه صعوبات مالية مؤقتة، أما البنك الدولي فجاء لتمويل مشاريع إعادة الإعمار والتنمية طويلة الأجل في الدول المتضررة من الحرب أو المتضررة عموما في زمن السلم، المنكوبة لأسباب بيئية أو ما شابه. 

لكن كان هذا الاتفاق بمثابة إذعان اقتصادي كامل لأمريكا، وهو ما تطلب إعادة تقييم الإنتاج العالمي بالعملة الأمريكية.

تحويل الدولار رسميا إلى عملة عالمية، جعل منها لغة التفاهم الوحيدة بين أي منتج/ بائع ومستهلك/ مشتر في العالم، ووسيط في كل عمليات التجارة على سطح الكوكب حتى ولو بطريقة غير مباشرة. كانت هذه هي اللعبة الجهنمية التي فطن إليها المفاوض الأمريكي الخبيث في التأسيس للقيادة الأمريكية للعالم الجديد.

تحددت قيمة الدولار الأمريكي وقتها بشكل ثابت مقابل الذهب، "35 دولارًا أمريكيًا لأونصة الذهب" وقد تعهدت الدول الأعضاء بتثبيت سعر صرف عملاتها مقابل الدولار والحفاظ على استقراره.

ربط الدولار في هذا التوقيت بالذهب الذي كان الغطاء المالي لكل العملات، يعني ربط كل اقتصادات العالم بالدولار.

بعبارة أخرى، كل قيمة مضافة تُنتج في العالم أصبح يقابلها ورقة خضراء مطبوعة في واشنطن، لها غطاء ذهبي في الفيدرالي الأمريكي.

ظل هذا الوضع قائما منذ توقيع الاتفاق حتى صدم الرئيس الأمريكي نيكسون العالم مطلع السبعينات، بحقيقة أن الدولارات المتداولة في العالم لا يوجد لها غطاء ذهبي لدى واشنطن. وجد العالم نفسه أمام أمر واقع جديد. تحول الدولار من مجرد وسيط للتعامل المالي إلى سلعة في حد ذاته ليحل محل الذهب في تكوين الاحتياطيات الوطنية، وسعره يخضع لقواعد العرض والطلب دون التقيد بالغطاء الذهبي، فنشأت على إثر ذلك ظاهرة "الدولرة"، والتي تعني استخدام الدولار كمخزن للقيمة ومن ثم استخدامه كاحتياطي نقدي بديلًا عن الاحتياطي العيني.

هذا الإجراء ضمن للولايات المتحدة على الأقل سلامة عملتها من التقلبات الحادة، وأصبح سهلا عليها التخفف من مشكلاتها الاقتصادية بتصديرها وتحميل تكاليفها المالية على الغير، أي على كل أعضاء الأسرة الدولية المضطرين للتعامل بالدولار في تجارتهم الخارجية.

 ظاهرة البترودولار أيضا "قصر عمليات بيع وشراء النفط عالميا بالدولار فقط" ساهمت هي الأخرى في تثبيت الوضع وجعلت من العملة الأمريكية وسيلة لا غنى عنها في عمليات التجارة الدولية، غير أنه في الوقت ذاته أدت تلك الظاهرة إلى زيادة حساسية الدولار لكل الأحداث السياسية حول العالم. لو حدثت أزمة بترول في الشرق الأوسط، شعر بها مواطن دولة أخرى تقع على أطراف الخريطة من خلال الزيادة في أسعار كل السلع والخدمات كما حدث إبان حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل.

مع كل هزة كان يتعرض لها الدولار، أو مع كل سياسة نقدية يطبقها الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) كانت الديون السيادية على الدول وتكلفة خدمتها ترتفع بشكل ملحوظ. مثلا مع كل قرار برفع سعر الفائدة على الدولار يؤدي تلقائيا إلى ارتفاع الفائدة على الديون الدولية؛ لأنها مقومة بالدولار أصلا. تراكم الديون والتأخير في سدادها إلى جانب أسباب أخرى ضاعف أعباءها، ومن ثم تفاقمت مستويات الديون الدولية بقفزات سريعة حتى تخطت قدرة بعض الدول على السداد.

في عالم ما بعد الحرب، كانت ميزانيات معظم الدول تعاني عجزا هائلا في وقت توقف الإنتاج ودمار البنى التحتية. لجأ معظم الحكومات إلى الطبيب الجديد الذي يبشر بوصفة سحرية في علاج الأزمات. لم تتخط الوصفة حدود الأدوات التي أوصى بها المفكر الاقتصادي الملقب بأبو الرأسمالية آدم سميث،  في تمويل العجز بالتقشف أو بالاقتراض، أو بكليهما معا.

تفاقم الأزمة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أطلق يد صندوق النقد الدولي لفرض سياسات معينة على الدول المدينة عرفت بإجراءات التكيف الهيكلي. 

الاقتراض في النظام العالمي لا يتم إلا من خلال الأسواق المالية الدولية، التي هي في أغلبها تابعة وموجهة سياسيًا. العبور إلى تلك الأسواق لا يحدث إلا من خلال بوابة صندوق النقد الدولي، وهنا مكمن قوة تلك المؤسسة الأخطبوطية وتسلطها على دول العالم سيما النامية التي تحتاج باستمرار إلى تمويل العجز شبه الدائم لديها.

بينما التقشف يقصد به تطبيق إجراءات انكماشية تقوم على تقليل الإنفاق الحكومي وتقليص الدعم ومخصصات الرعاية الاجتماعية، وهي عملية شديدة القسوة على الطبقات الفقيرة والأكثر فقرا في أي دولة، وتداعياتها الاجتماعية على المدى البعيد مرعبة. التجربة أثبتت أن خطورة تلك العملية قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تحلل المجتمعات وتعفنها وتشبعها بكل قيم القبح الناجمة عن وضع اقتصادي مزرٍ تتنامى فيه مستويات الفقر والفقر المدقع باضطراد.

مع مرور الوقت، اتخذت ظاهرة المديونية أبعادًا سياسية خطيرة، بعد أن باتت الدول غير القادرة على تسديد أقساط الديون وفوائدها بصورة منتظمة مهددة بالإفلاس، الأمر الذي وضعها تحت رحمة الدائنين الدوليين الذين استغلوا الأزمة كباب خلفي للتدخل في الشئون الداخلية للدول وفرض إملاءات خارجية تتعلق بالقرار السياسي نفسه.

لم تنجح وصفات الصندوق في انتشال الدول من أزماتها، بل على العكس، تفاقمت تلك الأزمات. دولة كالأرجنتين مثلا التي وصفها الصندوق بـ"التلميذ النجيب" نظرًا لتطبيقها الروشتة بحذافيرها، أعلنت إفلاسها وعدم قدرتها على سداد ديونها في نهاية المطاف.

أزمة المديونية العالمية تظهر بوضوح الخلل في تقسيم الإنتاج العالمي بين الدول المتقدمة والنامية، فالمشكلة أكبر من مجرد إجراءات انكماشية يمليها الصندوق على الدول المتعثرة، وتتطلب تعاونا جادا وتنازلات حقيقية تقدمها الدول الغنية للدول الفقيرة من أجل إنهائها قبل أن تعصف بالاقتصاد العالمي كله.