رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيسنجر.. عصفور من حجر

دشن هنرى كيسنجر "وزير الخارجية الأمريكى ومستشارالأمن القومى سابقًا" عامه المائة خلال الأيام القليلة الماضية. يتميز كيسنجر بأن إرثه الدبلوماسى والسياسى لا يزال رغم مرور كل تلك السنوات محلًا للإعجاب والإبهار والسخط والانتقاد.

بدأ كيسنجر مسيرته فى العمل الأكاديمى من جامعة هارفارد 1954 وحصوله على الدكتوراه، ثم صار مستشارًا للأمن القومى 1969، ثم وزيرًا للخارجية 1973 فى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، واستمر فى منصبه حتى 1977 فى عهد الرئيس جيرالد فورد.

اعتنق هنرى كيسنجر مذهب "السياسة الواقعية" للكاتب الألمانى لودفي كفونروشو، والذى اهتم من خلاله بأولوية الاعتبارات والظروف فى العمل السياسى والدبلوماسى بدلًا من اتباع أى مرجعية أيديولوجية أو مرجعية المفاهيم الأخلاقية.. لأنه رأى أن السياسة الواقعية أكثر استقرارًا، وأننا الآن فى عالم تتلاشى فيه روح الواقعية. وهو ما أهله ليصبح لاعبًا رئيسيًا فى الدبلوماسية العالمية خلال حقبة الحرب الباردة، بل اللاعب الأول فيها. استطاع بحنكته أن يحافظ على التوازن النووى فى العالم بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.

كتابه عن "الدبلوماسية" يعتبر خريطة طريق القنوات الدبلوماسية الخلفية لتطبيع العلاقات بين الصين والولايات المتحدة فى السبعينات من القرن الماضى. وأسفرت جهوده عن عقد قمة بين الرئيس نيكسون والزعيم الصينى ماو تسى دونج. وظل كيسنجر حريصًا على بقاء اتصالاته بالقادة الصينيين وكبار المسئولين على مدى العقود الماضية بغض النظر عن التوترات فى العلاقات الثنائية. ولم تنس الصين دور كيسنجر فى 1971 بجهوده فى الحفاظ على العلاقات الصينية الأمريكية لدرجة أن أرسلت له مؤخرًا سفيرها الجديد لدى واشنطن لنقل تهنئة بكين بعيد ميلاده المئوى.

يظل كيسنجر خبيرًا فريدًا واستثنائيًا فى العلاقات الدولية، ورائدًا فى الدبلوماسية المكوكية.. استطاع أن يقوم بدور محورى بين كل من مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل من الجهة الأخرى للتوصل إلى وقف إطلاق النار فى حرب أكتوبر 1973، بل وأيضًا التمهيد إلى اتفاقية "كامب ديفيد" للسلام بين مصر وإسرائيل 1978.

حصل على جائزة نوبل للسلام 1973، ورغم ذلك فإن الكثيرين لم ينسوا تاريخه، ولا يزالون يصفون سجله السياسى باعتباره "مجرم حرب" بسبب ارتباطه بالعمليات السوداء لسياسات الولايات المتحدة ونشاطاتها العسكرية فى فيتنام وكمبوديا ولاوس وباكستان وتشيلى وكوبا وتيمور الشرقية ولبنان وقبرص، وغيرها من البلدان التى عانت من تبعيات السياسة الأمريكية.

تظل الفكرة المركزية التى سيطرت على توجهات كيسنجر هى وجوب دفاع الولايات المتحدة عن مصالحها الحيوية، وأنه يجب أن تكون أمريكا دائمًا أقوى من أجل مقاومة أى ضغط. وقد خلد اسمه باعتباره على رأس قائمة موجهى السياسات الدولية للعالم كله، وليس فقط للولايات المتحدة الأمريكية والغرب. وهو الذى جعله محل اتفاق كمرجع سياسى للحزبين الجمهورى والديمقراطى. ولا تزال لكيسنجر إلى الآن كلمة مسموعة عند كبار رؤساء العالم وزعمائه. ولا زالت أفكاره وحلوله مصدر ثقة لدى توازنات سياسات العلاقات الدولية.

سيكتب المؤرخون أن كيسنجر كان مؤثرًا بشكل غير عادى فى صناعة السياسة الخارجية الأمريكية. وله دور بارز فى صياغة مكانة أمريكا فى العالم. ويستحق ما وصفه به مارتن إنديك "وكيل وزارة الخارجية الأمريكية السابق" بأنه (سيد اللعبة وفن دبلوماسية الشرق الأوسط).

نقطة ومن أول السطر..

لا يوجد حاليًا على مستوى العالم من يمكن تصنيفه باعتباره الأكثر خبرة من هنرى كيسنجر فى العلاقات الدولية. وسواء اتفقنا معه أو اختلفنا.. سيظل دبلوماسيًا من الطراز الأول.

هنرى كيسنجر.. المعنى الحقيقى لمفهوم "ابن الحلال".