رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليالى أم كلثوم فى السودان

طالما الناس تنسى فإن التاريخ يتذكر، وطالما الصغار يثرثرون فلدينا حديث الكبار، وطالما الصورة الآن مليئة بالكر والفر وأصوات الرصاص ونقيق الضفادع، فإن الفن قادر على إعادة البهجة حتى ولو بتلك الحكاية اللطيفة الظريفة عن ليالى السيدة أم كلثوم فى السودان، فالكل يعرف أن الست ذهبت للغناء ضمن حفلاتها لدعم المجهود الحربى بعد ١٩٦٧، لكن ما حدث هناك كان أكبر من مجرد حفلين على مسرح أم درمان، إذ عاشت أم كلثوم خلال تسعة أيام حياة كاملة وسط الشعب السودانى حضرت خلالها الأفراح، وشاركت فى طقوسها المثيرة، وتعرفت إلى الشعراء والمطربين، وحملت دواوينهم معها إلى القاهرة، واختارت الهادى آدم فيما بعد ليكتب رائعتهما «أغدًا ألقاك» على ضوء تلك الزيارة التى سجلها الكاتب الكبير يوسف الشريف.

                                 

القلق الكلثومى

                                                                           

 

بعد أن أعلنت أم كلثوم عن قيامها بجولات غنائية لدعم المجهود الحربى، تلقت اتصالًا من وزير الإعلام السودانى عبدالماجد أبوحسبو يدعوها للغناء على مسرح أم درمان، ولم تتردد سيدة الغناء العربى فى قبول الدعوة، لكنها عاشت فترة من القلق والحيرة قبل مواجهة الجمهور هناك، ماذا يوافق ذوقهم؟! فهى لا تتذكر بين جمهور حفلاتها الشهرية من أبناء السودان سوى عدد قليل بينهم «محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان، والدكتور التيجانى الماحى رئيس مجلس السيادة السابق ورئيس هيئة الصحة العالمية آنذاك، وصديقها السياسى المرموق على البرير الذى اختار الإقامة فى القاهرة، ومطرب السودان الكبير أحمد مصطفى»، كل هؤلاء وسيدة الغناء العربى ما زالت تحتاج أن تعرف أكثر عن السودان وطبائع شعبه حتى تنال إعجابه وترضى ذوقه، تخيل معى هذا الحرص، وتلك الدقة التى ستدفعها للبحث عن معلومات أكثر حتى تتقابل مع كاتبنا الكبير يوسف الشريف، الذى يروى القصة كما بدأت فى إحدى ليالى ديسمبر ١٩٦٧ عندما تلقى اتصالًا من صديق له بالأهرام كانت السيدة أم كلثوم قد أرسلت إليه تطلب منه معلومات محددة عن الغناء والطرب فى السودان فلم يستطع إجابتها، فقام بترشيحه للقيام بتلك المهمة وطلب منه الاتصال بها.

وفى الصباح فعلها يوسف الشريف سعيدًا واتصل ودار هذا الحوار الظريف:

- ألو.. فيلّا كوكب الشرق السيدة أم كلثوم؟

- نعم.. مين حضرتك؟

- يوسف الشريف المحرر بروزاليوسف.. ممكن أكلم السيدة أم كلثوم؟

- عاوز إيه يا سى يوسف؟

- نفسى أشرب عندك فنجان قهوة.

- للأسف ما عندناش بن.

- إذن امنحينى شرف إجراء حوار صحفى حول زيارتك المرتقبة للسودان، وأنا أجيب معايا بن اليمن والبرازيل كمان.

- على كده اتفقنا ميعادك بكرة الساعة خمسة.

 

بُن من الغورية

 

 

أخذ يوسف موعده سعيدًا متهللًا، وكان فى طريقه إلى حوش قدم للقاء صديقيه أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى، فاشترى لها البن المطحون الذى تحبه من الغورية، ومن محمد البنان تحديدًا، وذهب بهديته التى أعجبت الست وتعجبت من معرفته بالبنان، وتناول القهوة مع أم كلثوم التى تحولت إلى صحفى أو محقق يسأل عن التفاصيل والشريف يجيب:

- إيه اللى تعرفه عن الغناء السودانى وبيعجبك إيه؟

وانطلق يوسف يحكى مؤكدًا لها أن تذوق الغناء السودانى هو المدخل المباشر إلى وجدانهم، وقال إن معظم الغناء السودانى من الشعر العربى الفصيح أو الشعر الشعبى الأصيل يعتمد على السلم الموسيقى الخماسى، بينما الغناء الشرقى يعتمد على السداسى، ومن هنا فإن الوجدان السودانى تواق إلى الإيقاعات التى يهتز معها طربًا فى مناسبات الأفراح.

وهنا سجلت أم كلثوم ملاحظة فى ورقة أمامها، ثم تركته يكمل حديثه عن تعدد ألوان الغناء هناك وعن الثقافة السودانية التى هى مزيج بين العربية والإفريقية «إلا أن الوجدان السودانى أكثر ميلًا إلى الإفريقية»، وشرح لها يوسف أسباب هذا التعدد الفنى والثقافى للسودان الذى تصل مساحته إلى مليون ميل مربع، بما يعادل مساحة دول أوروبا الغربية «لذا يعج بالقوميات والثقافات واللهجات والرطانات والقبائل، حتى إن لكل منطقة مطربيها وألوان غنائها»، لكن تظل الأغنية الشمالية الأكثر انتشارًا وتداولًا وتذوقًا فى مختلف ربوع السودان، وأشهر مطربيها «حسن عطية وعبدالعزيز داود وعثمان حسين وإبراهيم الكاشف والنعام آدم» من الجيل القديم، و«عبدالكريم الكابلى ومحمد وردى ومحمد الأمين وعثمان اليمانى وزيدان وحمد الريح وابن البادية» من الجيل الجديد. والسودانيون- يشرح يوسف لأم كلثوم- كبيرهم وصغيرهم يعشق الغناء، وكثيرًا ما سمعت فى هدأة الليل من يغنى على إيقاع النقر بالأصابع فوق علبة الكبريت.

وبالطبع سألت أم كلثوم بدهشة، فشرح لها عملية الغناء على تلامس أعواد الكبريت التى لا أعرف- أنا شخصيًا- معلومة عنها، ثم لفت نظرها إلى عادة متأصلة فى الشعب السودانى وهى ترديد الكوبليهات وراء المطرب ويسمونها «الشيل»، بل وظهر مؤخرًا تقليد غنائى جديد باسم «الشيالين البنات»، ويعنى الكورس الذى يصاحب المطرب من الجنس اللطيف، ومضى الوقت ويوسف يواصل الحديث حتى فوجئ بالسيدة أم كلثوم تدير قرص التليفون وتتحدث مع عبدالكريم الميرغنى سفير السودان آنذاك، وتطلب منه إضافة اسم يوسف الشريف إلى قائمة المصاحبين لها فى الرحلة، ثم أمسكت بالورقة التى سجلت فيها ملاحظاتها وطلبت حضور فرح سودانى قبل اللقاء بالجمهور.

 

إحنا الفرح

 

فى ٢٥ ديسمبر ١٩٦٧ خرجت الجماهير التى استقبلت عبدالناصر لحضور القمة العربية بنفس تدفقها وحماسها لاستقبال سيدة الغناء فى مطار الخرطوم، ورغم أن الطريق من المطار إلى بيت الضيافة لا يستغرق ربع الساعة، فإن الموكب استمر ساعة ونصف الساعة من الزغاريد والبهجة المهرجانية حتى وصلت بيت الضيافة، وتجمعت النساء حولها بأكلات ومشروبات سودانية، لكنها كانت متلهفة لحضور فرح سودانى، ولم تنتظر كثيرًا فقد كان «الخليفة النور» وهو رب عائلة عريقة جدًا قد قام بتأجيل حفل زفاف كريمته خصيصًا حتى تصل أم كلثوم وشجّعها عبدالماجد حسبو، وذهبنا إلى الاحتفال فى حى بحرى، وبدأ الحفل بتخضيب يدى العريس وقدميه بالحناء، وهو مستلقٍ على العنجريب، هو السرير الشعبى، وبعدها يتبادل أصدقاؤه ضربه بالكرباج السودانى على ظهره من باب الدعابة، واختبار مدى احتماله أمام عروسه، ومن المعروف أن العروس- فى معظم أنحاء السودان- تتلقى على مدى أسابيع تدريبات على الرقصات الشعبية قبل الزفاف، طوال أداء العروس الرقصات الجميلة كان العريس والمدعوون يتقدمون إلى حلبة الرقص، ويفرقعون بأصابعهم فوق رأسها وهم يرددون «أبشر بالخير»، فتميل العروس برأسها يمينًا وشمالًا تيهًا ودلالًا، ونهضت أم كلثوم من مكانها، وفرقعت بأصابعها فوق رأس العروس، ورددت معهم «أبشر بالخير»، وتوارت العروس داخل منزل العائلة، ثم عادت وهى ترتدى ما يشبه «جونلة» من السيور الجلدية، وراحت ترقص بسرعة فى حركة دائرية وسط الحلبة، والعريس يشد هذه السيور، الواحد تلو الآخر، وهى تحاول الفرار منه، وتارة تمكنه من نيل مأربه حتى ينجح فى مهمته كما ينبغى.. وهنا- كما يقول يوسف- صرخت أم كلثوم «إيه البهجة الحلوة دى»، وسألت عن اسم الرقصة فقالوا «قطع الرحط»، فطلبت من السيدة سامية صادق التفكير فى فيلم تسجيلى عن طقوس الأفراح السودانية.

 

هذه ليلتى

 

عاشت الخرطوم ليلة مبهجة، وفى الصباح كانت سيدة الغناء العربى تلبى دعوة لزيارة بيت السفير المصرى كمال خليل، ولقاء إسماعيل الأزهرى رئيس مجلس السيادة فى القصر الجمهورى، وشاركت فى المساء حفل التكريم الذى أعده شعراء السودان، وقدم لها يوسف الشريف المطرب المثقف «عبدالكريم الكابلى» الذى كانت له تجربة فى غناء قصيدة «أراك عصى الدمع»، ورغم أن الشاعر الكبير محمد أحمد محجوب قال إنه لا يجوز الغناء فى حضور سيدة الغناء، فإن أم كلثوم طلبت من «الكابلى» الغناء، واستمتعت بالأداء وطلبت منه زيارتها فى القاهرة، ووقف الشعراء يلقون القصائد وعلى رأسهم الشاعر محمد المهدى المجذوب.

وجاء الحفل، فظهرت أم كلثوم فى ثوب غنائى جديد وتبدد القلق والخوف، وانسجمت تمامًا مع الذوق السودانى بفضل ذكائها أولًا، وحصيلتها التى جمعتها من زياراتها للبيوت، والاستماع إلى الناس، وظهر الوعى الكبير فى تقصير مدة مقدمة أغنيتى «الأطلال وهذه ليلتى»، حيث تجاوب الجمهور مع تنغيمها دون الحاجة إلى ترديد الكوبليهات خلفها، وراحت ترتجل- كما يقول يوسف- فى توليفة بديعة بين السلم الموسيقى الخماسى والسداسى، وكانت تذاكر الحفلين قد نفدت بالكامل، فاضطرت إدارة المسرح لزيادة عدد المقاعد فى الممرات بعد إلغاء الضريبة المقررة على المصنفات الفنية. وتدفق الآلاف من ربوع السودان إلى الخرطوم لمشاركة الست فى «عيدها الكلثومى» على حد وصف الشاعر السودانى بدرالدين مدثر، أما يوسف الشريف فقد وصف كل ما جرى فى مقال بمجلة روزاليوسف تحت عنوان «أم كلثوم تسودن أغانيها»، ثم ضمنها كتابه «مما جرى فى بر مصر»، وكانت الزيارة بشارة التعاون التالى بينها وبين الهادى آدم فى «أغدًا ألقاك».

 

يوسف الشريف

 

ولا تظن أننى قصدت كتابة هذا الموضوع وإعادته وتجديده بمناسبة ما يحدث فى السودان حاليًا، فقط كنت فى حالة اشتياق إلى كتابات يوسف الشريف لشعور غامض بأنه لم يأخذ حقه حتى بين صفوف أنصاره من الناصريين والقوميين، فهو خامة خاصة معجونة بالدفء والموهبة، وكان واحدًا من الكُتاب الذين تعرفت على كتاباتهم خلال دراستى الجامعية من خلال كتابه الشيق الممتع عن كامل الشناوى «آخر الظرفاء» الذى قدم له صلاح حافظ، ثم تربع «يوسف الشريف» فى منطقة خاصة بكتابيه الأكثر إمتاعًا عن القديس عبدالرحمن الخميسى، وعن عبقرى الفن الشعبى والفلكلور المصرى زكريا الحجاوى، وعاش يوسف ضمن جيل العظماء فى الكتابة والإبداع، واختار لنفسه ما يؤمن به ويتناسب مع توجهاته القومية، فهو الابن الأنضج فى مشروع عبدالناصر، واختار السودان واليمن ليس لكتابة أخبار عنهما، ولكن للتعايش بينهما وتسجيل طبائعهما وعاداتهما وتقاليدهما وتقريبهما أكثر للقارئ المصرى والعربى، لم يكتب عن الاستراتيجيات والإنجازات والمشروعات، لكنه كتب عن الناس هناك فأحبوه، كصديق وشقيق وكاتب ومفكر، ثم جاءت علاقة النسب والمصاهرة- شقيقته الصغرى كانت متزوجة بالأستاذ الشيخ حسن بليل وزير التجارة آنذاك ومحافظ بنك السودان- لتضيف إلى العلاقة أبعادًا أكبر جعلت يوسف الشريف الخبير الوحيد فى ثلاثة أجيال صحفية متعاقبة بمعرفة طبائع الشعب السودانى وتنوع ثقافته، فحفظ شوارع السودان وطبائع أهله كما يحفظ عناوين بيوت أصدقائه كامل الشناوى وصلاح حافظ وطوغان وإحسان عبدالقدوس وبيت شقيقته الراحلة «عايدة الشريف»، وبالإضافة إلى كتابه «مما جرى فى بر مصر» الذى روى فيه ليالى أم كلثوم فى الخرطوم، فإن للشريف كتابًا مهمًا بعنوان «السودان وأهل السودان» الذى صدر أوائل التسعينيات بمقدمة لحيدر إبراهيم على.