رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من هو السلطان حامد الذى يقوم عليه مسلسل «سره الباتع»؟

أفيش مسلسل سره الباتع
أفيش مسلسل سره الباتع

عرضت أولى حلقات مسلسل "سره الباتع" أمس، وهو مستوحى من قصة تحمل نفس الاسم للأديب الراحل يوسف إدريس ضمن مجموعته القصصية الشهيرة «حادث شرف» التي نشرت للمرة الأولى في يناير 1958 وتتكون من 7 قصص وهي: "محطة، شيخوخة بدون جنون، طبلية من السماء، اليد الكبيرة، تحويد العروسة، حادثة شرف، وسره الباتع"، وبمعالجة درامية وسيناريو وحوار وإخراج خالد يوسف، وإنتاج شركة سينرجي.

تدور أحداث معظم قصص المجموعة القصصية في الريف المصري، وينتمي أبطالها للطبقات الفقيرة، وربما تكون ظلالًا لأحداث حقيقية عايشها الكاتب بنفسه خاصة أنه كان ريفيًا وتحديدًا من قرية البيروم بمركز فاقوس التابع لمحافظة الشرقية، وعاش فيها طفولته الأولى مع جدته، وساهمت القرية في تشكيل حياته الأدبية.

تنوعت قصص «حادثة شرف»، إذ تمتع بعضها بالسخرية كـ«تحويد العروسية»، وبعضها مؤلمة ومنها "شيخوخة بدون جنون"، أما قصة «سره الباتع» فكانت من أطول القصص التي مزجت بين الواقع والأسطورة بعمق وسلاسة، إذ تدور حول شاب يبحث عن سر مقام "السلطان حامد" الذي يتواجد في إحدى قرى الريف المصري، ويشاهد تقديس أهل بلدته لمقامه، رغم أن علاقته به لم تكن تتعدى مجرد نظرة غير محبة للاستطلاع يلقيها عليه كلّما مر به في ذهابه وإيابه، نظرة سريعة كأنما ليطمئن بها فقط على وجوده، فقد كان علامة رئيسية من علامات البلد، مثله مثل محطة السكة الحديد، وسرايا آل ناصف، والبقعة المسكونة التي قُتِل فيها سيد إبراهيم - كما يقول بطل القصة.

واستطرد: الحقيقة بدأتْ تنتابني الغَيْرة من السلطان حامد، بدأتُ أحسُدُه على تلك المكانة التي يحتلُّها في قلوب الناس، مع أنَّه لم يكن يملك لهم حولًا ولا قوة، هذه الكمية من الحجارة القائمة عند حافة الجبَّانة، كيف يكون لها كل هذا الاحترام والتقديس؟!

دفع فضوله إلى أن يعرف قصة هذا السلطان، ولماذا يلتف حوله أبناء قريته بهذا الشكل، واتجه لهناك وألقى نظرة على مقامه وعنه يقول: كان عبارة عن حجرة قديمة وكأنَّها مبنية منذ الأزل، ذهب الطلاء عن كل جدرانها وبقيت الحجارة الحمراء بارزة متآكِلة كضلوع الميت العجوز، ولم يكن يُميِّز المقام عن بقية المقابر إلَّا أنه مبنيٌّ من الحجر؛ إذْ إنَّ معظمها مبنيٌّ من الطين، والأغنياء وحدَهم هم الذين يطلونها بالجير، ويكتبون أسماء موتاهم عليها، يكتبها لهم عم محمد البنا بطلاء الزهرة وبخطِّه العاجِز الركيك.

وعن رؤيته للسلطان حامد نفسه في الداخل؛ يتابع: لقد رأيتُ السلطان حامد نفسه في الداخل، كان ضخمًا جدًّا أضخم من الجمل، وله رقبة طويلة جدًّا وبارزة من جسده الضخم بطريقة مخيفة، وتنتهي بكتلة خضراء كبيرة تلمع في الظلام، كان السلطان باركًا في الداخل يتلمَّظ ويكاد يمدُّ رقبته الطويلة ويقضم رأسي.

مناقشات عديدة أدارها بطل القصة مع الكثيرين من أهل بلدته، والشيخ شلتوت صاحب الكُتَّاب، حتى جده العجوز، دون أن تسفر عن جدوى له يعرف من خلالها من هو السلطان حامد الذي ظل يشغل باله كثيرًا، وهل هو أحد أبناء بلدته أم كان شخصًا غريبًا، فإذا كان ذلك فلماذا اختار هذه البلدة دون سواها ليدفن فيها، ثم من بنى له هذا المقام الحجري؟ ومن اشترى الكسوة؟ ومَن صنع له تلك الرقبة الطويلة ووضع فوقها القمامة؟ ومَن زرع هذا الكافور الطويل؟.. كل هذه الأسئلة كانت ترادوه ولم يجد إجابة لها، حتى يوم يقول عنه: وعدتُ إلى عملي، وإلى القاهرة، وإلى الساعات اليومية الثابتة التي كنتُ أقضيها في دار الكتب.

كنتُ قد أمسكتُ بخيطٍ ما، وكان تردُّدي على الدار هدفُه التأكُّد منه، فبحثتُ عن أسماء جميع السلاطين الذين حكموا مصر أو حتى مَن قدِموا إليها غازين أو زائرين، بل حتى أسماء سلاطين آل عثمان راجعْتُها كلَّها، ولم أجِدْ ظلًّا ولا إشارة واحدة لسلطان باسم السلطان حامد.. وحتى هذا الخيط الواهن انقطع، وبهذا فقدتُ كلَّ أثر للسلطان.

يومان في الأسبوع كنتُ أذهب إلى مكتبة الجامعة، ومِن هناك إلى قسم التاريخ في كلية الآداب، إذْ خلال شهور طويلة كنتُ قد تعلَّمتُ أشياء عن تاريخنا لم أكن أحلم بمعرفتها، وكنتُ قد خرجتُ بعدة صداقات، غير أنَّ حماسي لم يفتر أو يقل، إلى أن يحدث ما لم يكن يتوقعه وهو يفتح صندوقَ الخطابات مرة فوجد خطابًا راقدًا في قاعِه وعليه طابع بريد أجنبي.

كان الخطاب من مدام جين إنترناسيونال، وجاء نص الخطاب كالتالي: لا تَسَلْ كيف عثرتُ على هذه النتيجة، فمنذ عودتي إلى باريس وأنا وصديقاتي لم نستَرِحْ لحظة واحدة، ولم يكن لنا همٌّ طول الوقت إلَّا البحث في مشكلة السلطان، وكنتُ أريد أن أحدِّثَك بالتفصيل عن الجهود الكبيرة التي بذلناها لولا أني أُوثِر أن أُخْبِرَك بأهمِّ شيء، ففي الشهر الماضي صدر عن إحدى دُور النشر هنا كتاب يُعتَبَر وثيقةً تاريخيةً مهمَّةً، وهو عبارة عن مجموعة الخطابات التي تلقَّاها المسيو جي دي روان من صديقه روجيه كليمان، وروجيه كليمان كان أحد علماء الآثار الذين رافقوا حملة نابليون على مصر، ويُقال إنَّه لم يَعُدْ وإنَّه استَمْصَر وارتدى الملابس الوطنية وأقام هناك، وها أنا ذا أُرْسِل لك مع خطابي هذا بعض صفحات منتزعة من الكتاب وهي تحتوي على الخطاب الأخير، ولعِلْمِك أنَّ الذي قام على تحقيق هذا الكتاب ومراجعته وتدوين الملاحظات عليه هو الدكتور س. مارتان عضو الأكاديمي فرانسيز، وبهذا تستطيع أن تطمئنَّ تمامًا إلى سلامة كل ما ورد فيه، وأنا لا أعرف إذا كان ما جاء في الخطاب الذي أرسَلَه العالِم الفرنسي ما يكفي لحلِّ لغزِ السلطان أم لا، ولكن لا أريد أن أمنعك من قراءة الشيء الذي انتظرتَه طويلًا، وأظنُّك في شغف شديد للاطِّلاع عليه.

وتابع الخطاب: 

القاهرة في 20 يونيو سنة 1801

عزيزي جي

طلبتَ مني في خطابك الذي أرسلتَه منذ أكثر من ستة شهور أن أحدِّثَك عن مصر والمصريين، وذلك الشعب الذي يحيا على ضفاف النيل، ومشكلتي يا صديقي العزيز، هي هذا الشعب!

إنَّني أعترف لك أنني لم أكن هكذا يوم جئتُ، أنا - كما تعلم - حياتي هي فرنسا، وقد اشتركتُ في حمل جمهوريتنا على أكتافي، كنتُ وأنا أضَعُ قدمي على أرض مصر أحسُّ أني مُقْبِلٌ على بلاد إفريقية مظلِمة، أحمل لها شعلة الحضارة وأُذِيقها طعْمَ الجمهورية التي تنهل منها بلادي، فإذا بي اليوم، ماذا أقول؟! لقد شاهدتُ القُوَى الخارِقةَ بعيني يا روان، لقد مسَّنِي سِحْرُها ولكنَّك لن تفهم، لن أجِدَ أحدًا في العالَم، عالَمِكم، يفهم ما أعني، فلماذا أُتْعِب يدي وقلمي؟!

أمَّا المصريون، فبعضهم يسكن القاهرة والمدن، ومعظمهم يزرعون الأرض ويسكنون قُرَى سوداء مبنية بالتراب في الأرياف واسمهم الفلاحون.

وقصة حامد، لا أقول: إنها توضِّح ما أريد، ولكنْ فسِّرْها إنْ كنتَ تستطيع، لقد جئتُ هذه البلاد عدُوًّا، ولن أخْدَعَ نفسي وأقول - مثلما يقولون كلهم هنا - إنني جئتُ لأحرِّر المصريين من المماليك، جئتُ عدوًّا يا صديقي، جئْنا كلُّنا عدوًّا قويًّا مسلَّحًا بأحدث ما وصلتْ إليه أوروبا من مخترعات وآلات دمار، جئْنا غُزاةً قادِرين، فإذا بنا اليوم في وَرْطة، وإذا بمشكلتنا هي كيف ننتزع أرجلَنا لننجوَ بأنفُسِنا مِن طمْي هذا البلد وأناسِه الذي نحسُّ بأنفسنا نغوص فيهم ونختفي.

ولا أزعم أني سأُحْسِن الحديث عنهم، فليس في استطاعتي أن أفعل شيئًا كهذا، سأحدِّثك فقط عن حامد؛ فمنذ شهور كثيرة وهو الموضوع المفضَّل للحديث بيننا حين نَمْلِك الحديث، ويكفي أن تعلم أنَّ القيادة قد أصدَرَتْ أمرًا غير مكتوب بمَنْع الحديث عنه.

وحامد هذا ليس زعيمًا من زُعَماء المصريين، بل إنَّه إلى شُهور قليلة لم يكن أحدٌ يهتمُّ بحامِدٍ هذا أو يُقِيم له وزنًا، فقد كان أحد فلاحي قرية شطانوف الواقِعة بين فرعَيِ النيل، وأظنُّك لا يمكن أن تعتقد أن اسم شطانوف هذا اسم فرنسي، ولكنَّه كذلك، فالقرية كان اسمها في الأصل كفر شندي وكان بجوارها قلعة قديمة من قلاع المماليك، وحين غزَوْنا الدلتا، وطرَدْنا المماليك، هدمنا القلعة القديمة وبنينا أخرى جديدة بخامات محلية وأسمَيْناها شاتو نيف (أي القلعة الجديدة)، وكذلك غيَّرْنا اسم البلد وسمَّيْناه باسم القلعة، ولا تحسبْنِي أسخَر حين أقول إن هذا كل ما صارت إليه رسالتنا تجاه بلاد إفريقيا المظلِمة، أن نغيِّر اسمًا باسم، ولكن الفلاحين غيَّروا فيما غيَّرْنا، بطريقتهم الخاصة، فأطلَقُوا على القرية اسم شطانوف بدلًا من شاتو نيف!

حامد كان من فلاحي هذه القرية الذين يزرعون الأرض، ويُصلُّون لله في الجامع، وظلَّ هكذا إلى أن جاءتْ قوَّاتُنا وعسكرَتْ في القلعة الجديدة، وكانتِ القوات بقيادة الكولونيل بيلو الذي عانقْتَه وأنتَ تودِّعُني في مارسيليا، أتذكُر؟ والقلعة كانت بالِغةَ الأهمية إذ كانتْ نقطةَ ارتكازنا الرئيسية في الدلتا كلِّها، وكانتْ في الوقت نفسِه قاعدةً تَخرُج منها الدَّوْريات لتفتيش المنطقة بانتظام.

ولم يكن الهدف من القبض على حامد هو إعدامه لردِّ اعتبار جيشنا فقط، ولكن كان الهدف هو القضاء عليه نفسِه؛ إذْ إنَّ قتْلَه لبيلو أكسَبَه شعبيةً هائلةً في القرى المجاوِرة، وشعور الفلاحين لنا باعتبارنا كُفَّارًا وأجانب وأعداءً قد بدأ يتبلْوَر حول شخص حامد هذا، خاصة وقواتنا كانتْ لا تُراعِي المجامَلة في الاستيلاء على الأطعمة وعلى الخيول بلا مقابل.

وضَعَ كليبر خطة دقيقة حاصَر بها منطقة وسط الدلتا كلها حتى أصبح وقوع حامد متوقَّعًا بين يوم وآخَر، ولكنَّا يا صديقي كنَّا نُواجِه قومًا غريبين لا نعرفهم، فقد وجد كليبر نفسَه هو المحاصَر وسط السحنات المتشابِهة المتفاهِمة التي لا تستطيع أن تعرف ما يدور خلف جبهاتها أبدًا.

وكانت العلامات المميِّزة لحامد معروفة بالوشْم على وجنتيه وإصبعه البنصر المبتور.

وبعد البحث اتَّضَح أنَّ الفلاحين - لكي يُخْفُوا حامد بعلاماته المميزة، رأَوْا أن يَرْسُم أكبرُ عددٍ منهم وشمَ العصافير على وجناته ويقوم ببَتْر بنصَرِه الأيسر، حتى لا يصبح ممكنًا أن تميِّزَ حامد مِن بينهم، وبعد أن كان وشْم العصافير على الوجنات علاجًا لتقوية البصر، أصبح عادة شعبية، وبتر الإصبع البنصر أصبح مجال تنافُس بين رجال القرى وشبَّانها ومرتبة من مراتب الشجاعة والبطولة، وكان لا بد أن يحدث ما حدث يا صديقي، شيئًا فشيئًا بدأتْ عصابات صغيرة تتكوَّن من مبتوري البناصِر وواشِمي العصافير، وتُهاجِم وتقطع الطريق على قوَّاتنا، وتغتال أفرادَها، وكان أفراد هذه العصابات يسمُّون أنفسَهم أولاد حامد، وأطلَقُوا على حامد اسم حامد الأكبر، ثم سمَّوْه حامد السلطان.

وغزا اسم السلطان حامد كل أنحاء الدلتا، ثم دخل القاهرة وانتشر بين أهلها انتشارًا جنونيًّا حتى أصبحوا في حلقات الذكر يقولون بدل «يا سلطان حامد»: «مدد يا سلطان!» ثم غزا الاسم مصر العليا، وتكوَّنَتْ فِرَق أولاد السلطان حامد في كل مكان، وتَلِفَتْ أعصابنا يا صديقي من هذا الاسم، كان العُمَّال الذين أستخدِمُهم للحفر كلَّما تحدَّثوا لا يقولون إلَّا حامد، وأحيانًا كانوا يتكلَّمون بغيرها ولكني لا أشك لحظة في أنهم يقولون شيئًا آخَر غير: حامد حامد حامد.

ومع مرور الزمن؛ تحول حامد إلى سلطان، ولم تنتهِ قصته بين أبناء القرية بل بني له مقام كبير.