رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عالم جديد يتشكل

دون ذرة شك واحدة.. فإننا إزاء عالم جديد يتشكل، أو مولود جديد يصارع للخروج للحياة، بكل ما تحمله لحظات الولادة من ألم وصعوبة يعقبها فرح أو على الأقل تغيير.. المولود الذى ينتظره العالم هو «نظام عالمى جديد» أو شكل جديد للعالم بعد ثلاثة عقود ويزيد تحكم فيها قطب واحد فى مصير العالم ولم تجن فيها المنطقة العربية سوى الخراب وإسقاط الدول وموجات اللجوء وازدهار الإرهاب، وبعد سبعة عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور القوتين العظميين اللتين استطاعتا حسم الحرب العالمية الثانية وإنقاذ أوروبا من اجتياح النازى.. إرهاصات ميلاد النظام الجديد عبرت عن نفسها مؤخرًا فى أكبر أزمتين أحاطتا بالعالم ودفعنا فى مصر ثمنًا كبيرًا لهما دون ذنب أو جريرة.. أولاهما أزمة فيروس كورونا الذى اختفى كما ظهر، والذى تشير عشرات المؤشرات إلى أن انتشاره كان جزءًا من حرب خفية، أفلتت بعض خطواتها أو خرجت عن مسارها ليدفع العالم كله الثمن الذى رأيناه وينجو الأغنياء بعد قليل من المعاناة ويتعثر الفقراء فى كثير من النتائج.. وما زال العالم يعيش حتى الآن توابع أزمة «سلاسل الإمداد» وأزمة «نقص الرقائق» جراء شهور الإغلاق الطويل فى أزمة كورونا الذى بتنا لا نعرف الآن هل كان ضروريًا أم لا؟.. أما الأزمة الثانية التى يصطلى الكثيرون بنارها حتى الآن فهى الحرب الروسية الأوكرانية وتوابعها الاقتصادية، وأهمها أزمة أسعار الطاقة التى اصطلى بنارها كل الدول غير المنتجة للطاقة.. إلى جانب تعقيدات أخرى خلقها الحصار الاقتصادى لروسيا الذى تأثرت به الدول التى حاصرت روسيا أكثر من روسيا نفسها! والسبب أن روسيا تملك سلاح الطاقة التى ارتفعت أسعارها وزاد الطلب عليها وللأسف تأثرت الدول النامية والمعتمدة على الاستيراد تأثرًا كبيرًا بارتفاع أسعار الطاقة الذى يعنى ارتفاع أسعار كل شىء.. حالة السيولة التى تسيطر على العالم والتى يزيد منها وجود إدارة أمريكية يصفها البعض بالشيخوخة أو الانفصال عن الواقع أو الطابع غير العملى أدت إلى مزيد من التدهور فى أحوال العالم بشكل عام وفى أحوال الدول النامية بشكل خاص.. فكلما كثرت الأزمات والحروب والمعاناة.. كان هذا دليلًا على أن القوى الكبرى فى العالم تفتقر للكفاءة والحكمة.. أحد ملامح تشكل النظام الجديد هو الوساطة الصينية بين السعودية وإيران لإعادة العلاقات الدبلوماسية التى قُطعت منذ ٢٠١٦ على خلفية توترات كبيرة ذات جذور تاريخية.. الخطوة تدل على تغير فى أحد ثوابت السياسة السعودية، واتسامها حاليًا بالمرونة وإعادة الحسابات، وتدل أيضًا على تطور فى علاقة الصين بالمملكة العربية السعودية وبالعرب عمومًا على خلفية قمة «العرب الصين» التى عقدت فى الرياض العام الماضى.. كما تشير أيضًا إلى اختلاف فى نظرة الصين إلى نفسها وللدور الذى تتطلع لأن تلعبه فى العالم فى قادم الأيام.. مع مراعاة أن هناك فارقًا فى درجة الاستقطاب بين قطبى العالم فى النظام العالمى المنتهى فى ١٩٩٠ وبين النظام العالمى المتوقع ظهوره خلال السنوات القليلة المقبلة.. هذا الفارق هو فى «حدة الاستقطاب».. حيث لا أتوقع أن يكون الاستقطاب حادًا على طريقة أفلام جيمس بوند التى كان عملاء الغرب فيها ينطلون لمكافحة الشيوعية ورجال روسيا فى العالم.. يرجع هذا لطبيعة «الاشتراكية الصينية» التى هى خليط من الرأسمالية الاقتصادية والشيوعية السياسية نجحت الصين فى إنضاجه على مهل وأثبت نجاحًا فائقًا، وثانى هذه العوامل أن الصين تصعد إلى قمة العالم بالنقاط وليس بالضربة القاضية.. فهى لم تشارك فى حسم نتيجة الحرب العالمية الثانية مثل الاتحاد السوفيتى وأمريكا اللتين تعاملتا بندية وتنافس منذ اليوم الأول.. لكنها أثبتت أن العالم لا يمكن أن يستغنى عن إنتاجها وابتكاراتها ليوم واحد وخرجت منتصرة من أزمة كورونا التى ربما كان يراد بها القضاء عليها.. وبالتالى فإن تطور علاقة بلد ما بالصين لا يعنى قطيعة مع الولايات المتحدة الأمريكية بقدر ما يدفعها لمزيد من السلوك المهذب.. فى ضوء هذه التغيرات الحادة تحتفظ مصر بعلاقات عميقة واستراتيجية مع كل الأطراف، فعلاقتنا بالصين قديمة واستراتيجية وازدادت قوة فى السنوات الثمانى الأخيرة، وعلاقتنا الاستراتيجية بالولايات المتحدة راسخة ولها طابع متعدد واحترافى أكثر منه عاطفيًا أو حار المشاعر.. والأكيد أن صانع القرار المصرى فى ضوء حالة السيولة الحالية مطالب بأن يرتجل أحيانًا أو يفكر فى أكثر السيناريوهات استبعادًا على أنه ممكن الحدوث.. ما دام فى مصلحة مصر.. فالعالم الآن أصبح يعيد تعريف مصطلح «ثوابت السياسة» لأنه مصطلح يشبه «الخطاب الورقى» فى عالم «البريد الإلكترونى» مثلًا.. الثابت الوحيد فى السياسة هو المصالح الاقتصادية والسياسية المستندة لقاعدة وطنية وتفهم شعبى.. فقد تم توزيع أوراق اللعب فى المنطقة عدة مرات فى السنوات القليلة الماضية وتحولت خصومات لمصالحات واشتعلت حروب يجرى إطفاؤها حاليًا «رفضت مصر المشاركة فى أى حرب خارج حدودها ولا تزال».. وتحول الأعداء إلى أصدقاء أو «أعداء».. هذه السيولة قد تشير إلى خيال جديد أو وضع جديد وربما تشير لاضطراب أو تعجل.. وبين الاثنين فارق كبير يدركه صانع السياسة الماهر.. وبالتالى نحن مطالبون بالتعجل والتأنى وبالارتجال وبالحفاظ على القواعد أيضًا.. وهى مسألة ليست سهلة.. لكن مؤسساتنا تقدر عليها وعلى أكثر منها بكثير.