رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النخبة «البرازيلية» والأفكار «المجمدة»!

على هامش موضوع «الفراخ البرازيلية» قفزت لذهنى ذكرى من الماضى البعيد.. كنت طالبًا فى المدرسة الإعدادية فى حى شبرا فى منتصف الثمانينيات.. كانت المدارس وقتها تجمع فئات مختلفة اجتماعيًا دون تفرقة.. وكانت هذه أحد مكاسب الستينيات التى اختفت بعد ذلك.. كان زميلنا «هيمة» موهوبًا فى تقليد إسماعيل يس بشكل يثير ضحكنا.. لكنه إلى جانب هذا احترف مهنة غريبة بعض الشىء لزيادة دخله.. كان إبراهيم يهرب من المدرسة بعد الحصة الأولى ليتواجد أمام الجمعية الاستهلاكية المجاورة لمدرستنا وهناك تكون وظيفته أن يحصل من السيدة الراغبة فى شراء فرخة مجمدة على جنيه واحد ثمن الفرخة ويزاحم فى الطابور الطويل حتى يحصل على «بون» شراء.. ثم يزاحم فى طابور آخر ليتسلم الفرخة المجمدة ويسلمها لصاحبتها ويحصل على خمسة قروش نظير أتعابه.. ثم يكرر العملية مرة تلو الأخرى مستغلًا قدرته على المزاحمة فى الطوابير حتى تنفد كمية «فراخ الجمعية» فيعود بحصيلة من الـ«شلنات» التى جمعها بحسب قدرته على المزاحمة فى طابور «فراخ الجمعية».. ما أريد أن أقوله بمناسبة هذه القصة التى قفزت لسطح الذاكرة ضمن حكايات أخرى كثيرة.. إن الحياة فى مصر لم تكن أبدًا وردية طوال الوقت.. وإن وجود أزمات فى بعض الأوقات لا يعنى نهاية العالم.. وإن بعض من يجلسون على السوشيال ميديا الآن ليشككوا فى كل خطوة ويسفهوا كل قرار.. لم يولدوا وفى فمهم معالق الذهب ولا ولدوا لآباء كانوا يعيشون على ريش النعام.. وأنه من حين لآخر تظهر محكات يمكن منها قياس جهل البعض أو مرض قلوب البعض الآخر أو ادعاءات بعض المنتسبين زورًا وكذبًا لـ«النخبة».. فنخبة أى شىء هى أفضل ما فيه.. فلو قلت نخبة الشعب فأنت تعنى أفضل من فى الشعب تعليمًا وأخلاقًا ونضجًا فى التفكير.. ولو قلت نخبة المحامين فأنت تقصد أفضل من فى المحامين.. إلخ… لكن الحقيقة أن بعض التعليقات التى أتابعها هنا وهناك تكشف عن مستوى فاضح من السطحية وغياب المعلومات الأساسية يدفع هؤلاء إما إلى إصدار أحكام مغلوطة أو ترديد دعايات لجان الإخوان بحسن نية أو بسوء نية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.. من ذلك السخرية من استيراد بعض السلع الغذائية من روسيا وكيف أننا تأثرنا فى مصر من آثار الحرب ولم تتأثر روسيا.. مع أكبر كمية من الضحكات السمجة وثقل الظل الذى يظن متوهمًا أنه خفة ظل.. والحقيقة أن صاحب هذه السخرية جاهل «عصامى» علم نفسه الجهل بنفسه!! أو أنه كما يقول الأبنودى العظيم «ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم».. فمن بديهيات الأمور أن الاقتصادات الناشئة هى التى تتأثر بالأزمات العالمية وروسيا بكل تأكيد ليست اقتصادًا ناشئًا فى حين أن مصر كذلك.. ومن المعلومات العامة التى يعرفها أى طالب ابتدائى أن روسيا من كبار منتجى الطاقة فى العالم.. وأن الحرب أدت لتضاعف أسعار الطاقة وبالتالى تضاعف دخل روسيا بعد الحرب وبالتالى فهى ليس فقط لم تتأثر بالحرب الروسية الأوكرانية.. بل تأثرت بها إيجابيًا.. ومن المعلومات التى لا يعرفها صاحب هذه السخرية الجاهل أن روسيا حين تصدر لنا الأسماك مثلًا فهى تعتمد على أسطول عملاق يصطاد من أعالى البحار التى تطل عليها.. فى حين أن الإنتاج السمكى لدينا معظمه من إنتاج المزارع المعتمد أيضًا على استيراد العلف وبالتالى فلدى روسيا ميزة نسبية تؤدى لأن تكون أسماكها أرخص.. تمامًا كما أن لدى البرازيل ميزة نسبية تؤدى أن يكون دجاجها أرخص.. حيث تتوافر الأعلاف الطبيعية والمياه الوفيرة ومقومات إنتاج ليست موجودة فى مصر التى هى شريط أخضر يقطع صحراء كبيرة.. 

من علامات ضيق الأفق والتربص أيضًا.. ومن دلائل وجود متآمرين يمولون لجانًا للدعاية السوداء.. ذلك التشهير المبالغ فيه بصفقة واحدة لاستيراد الدجاج المجمد الموجود بالفعل فى مصر منذ السبعينيات.. الذى كان الناس يتنافسون للحصول عليه.. ويطلبونه باسمه الشعبى «فراخ الجمعية».. وقد حدث اكتفاء ذاتى من الدجاج المحلى فى ظروف معينة.. وهذا شىء جميل ويحمد لأصحابه.. لكنّ المصريين لم يعترفوا أبدًا بإنجاز تقوم به الحكومة فى أى عصر من العصور.. فهى دائمًا مذمومة ومشتومة ومحل غضب من المواطن الذى يؤمن بالبيت الغنائى «يا مين يجيب لى حبيبى».. لكنه لا يريد أبدًا أن يبذل جهدًا لـ«يجيب حبيبه لنفسه».. كما علق شخص أجنبى ذات مرة عندما سمع الأغنية.. ففى البداية قيل إن هذا الدجاج تحديدًا ودونًا عن مليارات الدجاجات البرازيلية فى العالم كله يسبب العقم!!.. ثم قيل إنه لا يسبب العقم ولكنه عديم القيمة الغذائية!! ثم قيل إنه لا يسبب العقم وليس عديم القيمة الغذائية ولكن الحكومة تبيعه غاليًا!! لأن السعر العادل للدجاجة هو خمسة جنيهات!!! رغم أن رغيف الفول بعشرة جنيهات كاملة!! لكن المواطن الذى يسكن الفيس بوك مقتنع أن سعر الدجاجة العادل خمسة جنيهات وأن الحكومة تسرق الشعب.. رغم أن هذا المواطن نفسه كان يشترى الدجاجة بمئة وخمسين جنيهًا قبل طرح الدجاج البرازيلى بيوم واحد.. والحقيقة أن هذه كلها ترهات وراءها لجان إلكترونية وضيعة.. وأنا أؤمن بالعلم وبالمعلومات.. وأى مواطن يدخل على «جوجل» سيجد عشرات الإفادات حول القيمة الغذائية للدجاج المجمد وأنها ليست أقل قيمة من الدجاج الحى.. باستثناء زيادة طفيفة فى الصوديوم لا تضر الغالبية العظمى من المستهلكين، وينبغى أن يحترس منها من يعانى زيادة فى نسبة الأملاح «لا يفرط فيها».. أما بالنسبة للمواطن الذى يدخل على موقع على بابا ويجد الدجاجة بخمسة جنيهات فبإمكانه أن يطلب أى كمية يريد.. بعد فتح باب استيراد الدجاج.. وأن يبيعها بخمسة جنيهات كما يريد.. وأقترح على الحكومة أن تعلن ترحيبها بأى مستورد يستورد دجاجًا بسعر أرخص من السعر الذى طرح به الدجاج.. بشرط أن يكون بنفس المواصفات.. تقول الآية الكريمة «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا.. اعدلوا هو أقرب للتقوى».. والمعنى أن غضبك من الحكومة لا يجب أن يدفعك لأن تقول كلامًا مضحكًا وغير موضوعى وغير صحيح حتى تبدو معارضًا خفيف الظل.. لأنك فى هذه الحالة تبدو أبله وجاهلًا ومركوبًا للإخوان وغيرهم فى حين تظن نفسك غير هذا.. إن اغتراب بعض النخب لدينا عن الواقع يجعلنى أسميها ساخرًا بالنخب البرازيلية.. واعتناق البعض لأفكار من متحف التاريخ يجعلنى أصف هذه الأفكار بالأفكار المجمدة.. لنجد أننا فى قضية الدجاج وغيرها نتعامل مع نخب برازيلية بأفكار مجمدة!! لا مع نخب وطنية بأفكار حية نابعة من أرض الواقع.. والله أعلى وأعلم!