رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«طريق متسع لشخص وحيد».. البحث عن الانتماء فى عالم لا يعرف إلا القسوة

طريق متسع لشخص وحيد
طريق متسع لشخص وحيد

فى فضاء أدب الرحلات أنت أمام حكايات عن المدن وتراثها، عن معالمها الجامدة من شوارع وأسواق وتراث وعادات وتقاليد لبشر لم تعرفهم قط، عن أدب البطل فيه لجغرافيا المكان وثقافته وليس جغرافيا الإنسان، ثم تُفاجأ بأنك أمام عمل يضعك أمام تصور مغاير لأدب الرحلات، فيه الإنسان البطل يواجه المدينة، تلك المدينة التى تدفع الإنسان للدخول فى صراعات معقدة وشائكة، فمهما ظهرت بمظهر أنيق، فهى قاسية لا ترأف بمصير أحد، فتجعل من البشر شخوصًا بائسة.

فى «طريق متسع لشخص وحيد» لأسامة علام، الصادرة عن دار «الشروق»، أنت أمام مجموعة قصصية أخذت من قالب أدب الرحلات صورة لها لتبحث عن وجود الإنسان وانتمائه بين الشخوص والمكان.

فيأخذنا الكاتب لعالم ملىء بالحكايات الخيالية وتصور مغاير للمدن وشخوصها، يكشف لنا عن فطرة الإنسان حيال المادة والوحدة واغتراب الإنسان برؤية مثالية للواقع مليئة «بالسحر والفانتازيا والجنون».

فتجد أسامة علام لا يلقى اهتمامًا للمتاحف الشهيرة أو المبانى والكنائس التى سحرت الجميع، بل بحث عن الخفى والخصب والذى لم تلوثه المدينة، عن مكنون الإنسان، يطارد الفراشات والنورس والفيلة، التى كانت كلها رموزًا خفية لدوافع الإنسان النقية والتى لا يستطيع أن يعبر عنها إلا فى خياله وأحلامه، يتخفى كشخصية من عالم ديزنى ليفعل اللاشىء فى بلاد يجب أن تفعل فيها كل شىء وإلا طاردك الجنون.

- الوجود والانتماء بين الشخوص والمكان وعلاقته برمزية الخيال

الأدب الرمزى هو الفن الذى يستطيع أن يعبر عن واقع الإنسان والمجتمع المشحون، لكن بشكل غرائبى ميتافيزيقى سريالى يناقش تناقض الإنسان والكون واغترابه، فنجد البطل هنا، والذى يعمل طبيبًا بيطريًا كائنًا وحيدًا، صنع لنفسه فى الغربة عالمًا كاملًا، عالمًا خفيًا مصنوعًا من السحر، عالمًا لرجل لم يعرف إلا المادة والعقل، فهكذا حال كل من عمل بالطب، لكن البطل هنا يعيش فى تناقض نفسى وصراع بين المادة وأحلامه، يهرب من قسوة المدينة لعالم ملىء بالخرافات، فالبطل يرى الحياة- المدينة- حشدًا من المتناقضات التى لا يمكن الإمساك بها فيلجأ من هذا الاغتراب للخيال الذى يجد فيه الانتماء الحقيقى وفيه يستطيع أن يتطهر ويسيطر على عالمه وشخوصه.

- الزمن اللانهائى وضياع الإنسان

‏ «يختفى ركاب من المحطة ويظهر ركاب آخرون، أتساءل كم من العمر مر فى انتظار قطار لا يرغب فى المجىء؟

- ‏لكنى مع ركاب آخرين لا تفتقدهم محطة القطارات أبدًا.

- أقرر الانتظار خمس دقائق أخرى.

‏- ‏أردد أسماء أحبتى كتعويذة سحرية لرجل وحيد فى مدينة لا تحب أحدًا.

- ‏ ‏ربما يأتى القطار».

‏‏هذا المقطع السابق يعبر عن نصوص أسامة علام فى مجموعته القصصية، عن الجريان اللانهائى للزمان، فقد استخدم الكاتب المحطة ليعبر عن الضياع الأبدى وعدم الاستقرار الذى يحيا فيه الإنسان، فالبطل هنا يصف القطار بألفاظ توحى بالصيرورة الزمنية وضياع الذات، فكان يجرى للانهاية، والمحطة المكان الذى تحيا فيه الذات فى انتظار ما لا يجىء أبدًا، فكان المشهد بمثابة اشتهاء للتحرر من عبودية الزمن وصراع يشعر فيه البطل دومًا بالعدمية.

‏هذا العمل فلسفى عميق يعبر عن غربة الإنسان، وربما للوهلة الأولى يعتقد القارئ أنه مجرد عمل بسيط، يمزج بين الواقع والخيال لغرض التسلية وتشويق القارئ، لكنك تجد نفسك أمام نصوص أدبية باهرة تمزج بين الرمز والفانتازيا، والتفاصيل الصغيرة الدقيقة جدًا التى تحيى فيك ذكريات الطفولة، أو تجعلك تعيد وجهة نظرك للعالم وكل شىء حولك حتى لو الأريكة التى ترقد جوارك.

‏- ‏فى «طريق متسع لشخص وحيد» ستتعلم أنك قادر على خلق عالمك الخاص مهما تشوه العالم من حولك.