رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دس السم فى رائحة الياسمين

بات المضمون السائد والمقدم للمرأة في الإعلام خطابا متواضعا هزيلا يتمحور حول صور ذهنية سائدة عن أدوار النساء، وفقا للتابوهات المجتمعية التي لا تخدم سوى تأصيل الذكورية بشكل مبالغ فيه، ويدعم أيضا اختلال موازين القوى وتمركز السلطة في يد الذكور، ظل المحتوى ينحصر ما بين برامج تتعلق بالمطبخ، وأخرى بالموضة والتجميل، أو ما يتعلق بالعناية بالمنزل والأبناء والزوج، ذلك المحتوى الذي أقنع المرأة نفسها بأن أدوارها لا تخرج عن إطار أن تكون دمية بلا وجدان، وزوجة تسر نظرا حتى وإن لم تسر فكراً.

رافق ذلك المضمون الخطاب الديني الذي استمر لسنوات لا يبحث ولا يقدم شيئا سوى الحديث عن النساء، وامتثالهن لقوامة الرجل التي فسروها بما يرضيهم ويرضي أهواءهم الذكورية غاضين النظر عن أن ما يحرفون فيه لأهوائهم هو كلام الله عز وجل، متحدثين عن طاعة عمياء ويسوّقون لها على أنها مفتاح من مفاتيح الجنة، لا يوجهون الحديث للرجال اللهم إلا في أن عبادتهم لله ما هي إلا عبارة عن تحكم وسيطرة وتنظير على النساء عامة سواء في محيط قوامته التي يحدثون عنها أو لا يحثونه على جمع مقاليد قرارات النساء في يده ووأد اختياراتها وحقوقها، وسلب إرادتها الإنسانية بالكامل وتطعيم ذلك بغزل ديني ومفاهيم شرعية ما أنزل الله بها من سلطان.

إضافة لمضامين إعلانية لكبرى الشركات، والمنتجات والعلامات التجارية تحتوي على رسائل تميز وتفرق وتؤسس لعنصرية فجة بين نسائنا، وترسيخ مفاهيم سطحية عن قدرات النساء، واهتماماتهن، وتسليع المرأة واستخدامها كوسيلة دون فهم أو مراجعة لذلك الأمر من أحد، بل وسادت معايير نمطية عن عمل المرأة في الإعلام تزيد من تثبيت المفاهيم السابقة لا تغيرها.

مع الأسف ظلت الصورة السابقة هي السائدة لسنوات طويلة وهي المتربعة على الشاشة تغزو عقول نسائنا، كحقنة تحت جلد لا نشعر بها، نستقبل في صمت ونتوافق مع الشعور بدونيتنا رويداً رويداً في حالة من الاستئناف والتسليم لجيل بعد جبل.

حتى بدأت الأصوات النسائية الواعية تأبى بصوت جهور ما يحدث لنسائنا في المجال العام والخاص وعلى شاشات ووسائل الإعلام، شاركهن في ذلك مئات من الأبحاث والدراسات التي تتمدد بخطورة المحتوى الإعلامي المقدم للنساء، وتوصي بتغيير جذري، وتنوير نسوي حتمي في الخطابات المقدمة للمرأة وتدخل في ذلك كافة الخطابات من المؤسسات المعنية بهذا الشأن داخل مصر بجانب المجتمع المدني منذ مطلع الألفية الأولى.

ولا ينكر أحد منا أن كل هذه الخطوات والتحركات كان لها عظيم الأثر في تحريك المياه الراكدة، وتنشيط العقول المعدة بالقنوات والوسائل الإعلامية المختلفة، والبدء في إطلاق محتوى يحترم ويقدر النساء، ويخاطب قدراتهن، ويغازل أدوارهن المسكوت عنها، وحقوقهن المسلوبة، ويزيد من ثقتهن بأنفسهن رويدا رويدا، ويدفع بالمزيد من الوعي الذي اختفى على مدار سنوات، كما جاء لأن ينتفض لملفات مسكوت عنها وعنف عانت منه النساء لعقود دون تدخل بل كانت تحميه أغطية المفاهيم الزائفة التي تم الترويج لها لسنوات طويلة.

استطاعت المساعي السابقة أن تخلق حيزا محترما لصوت النساء بشكل لائق للمرأة المصرية، ودورها التاريخي وقدراتها وكفاءتها التي لا مثيل لها، وأصبح هناك كود إعلامي خاص بالخطاب المقدم للمرأة في وسائل الإعلام ومعايير من يحيد عنها يحاسب، فلم يعد هناك وقت ولا متسع لمزيد من التهميش، والتحقير من نسائنا، وتمرير أو تبرير أي عنف أو مفاهيم تحقير واستغلال لنسائنا في هذا العصر.

ومع فرحتنا بتلك الاتصالات الصغيرة، ومحاولات وسائل الإعلام المختلفة لتحجيم خطاباتها التي يشربونها بعض الأفكار، والآراء التي تخالف الكود الإعلامي للخطاب الموجه للنساء، خرجت علينا إحدى القنوات ببرنامج بشابة يافعة لم تستطع إلفات النظر لها في أي برنامج قدمته رغم جمالها إلا حينما اتجهت لاستخدام أقصر الطرق، وهي خالف تعرف، واستخدم قاعدة الغرابة والتحدث في كل ما يبث النفور في الأنفس، وقد كان لذلك الوقع الكبير والعائد في الشهرة الواسعة، والتريندات اليومية واللغط حول الاسم والمشاهدات الكبيرة.

ومن هنا بدأت المأساة من منبر صغير على منصة كبيرة قد يتفوه من وقت لآخر بأخطاء تؤخذ وترد عليه، لإعداد ممنهج وكامل لفرض هزل سلوكي وكلامي لا يرتقي لكونه رأيا أو مساحة حرة من طرح أفكار، وإنما هي بث سموم هزلية قد سحبت من جسد المجتمع منذ سنوات ولم يعد مقبولا، بشكل أو آخر، أن نطرح تلك السموم على أنها وجهات نظر فما بالك أنها تطرح بشكل كوميدي على أنها الصواب والمستحب لحياة زوجية أفضل وعلاقات مستدامة بين الرجل والمرأة.

الأمر قد يبدو من بعيد أمرا لا يرقى للتعليق عليه حتى وإن أصحاب الألباب ودونهم لن يجدي معهم هذا السم الهزلي لوأد النسوية وحقوق النسوة والعودة أميالا للخلف، ولكن المفجع في الأمر حقاً أن الأمر منظم ويقدم بشكل علمي مدروس للغاية وممنهج وكأن هناك من يريد أن يعود بخطاب النسوية والحقوق إلى آخر شكل ممكن أن يقبل أو يمارس في هذا العصر.

فقد استهلكت كل أنواع الدعاية السلبية والإيجابية، فكلاهما وجهان لنفس العملة ما دام الوصول للهدف مرهونا بهما، فما بين نشر لمحتوي مستفز يحدث رد فعل ساخط وكبير فيزيد التفاعل مع ذلك المحتوى وتزيد نسب الوصول له ومن ثم يزيد المتابعون والمتأثرون وهنا تكمن المشكلة الرئيسية بوصولهم لأكبر قاعده ممكنة، ومع تدقيق بسيط ستجد تكرارا مستمراً ومستفزاً للأفكار، حيث إن الأفكار التي تكرر يوماً ما ستصدق حتى لو لم يحدث ذلك في البداية، ولا مانع من ترك خيارات مضللة وضيقة بطرح السيئ والأسوأ منه، ولحبك الأمر فيجب أن تختلف الأصوات داخل المنصة باستضافة ضيوف إما أن تجاري أو تعادي فكلاهما سيؤدي الغرض.

فالأمر الذي نستسهله ونراه ما هو أكثر من أضحوكة غبية لا ترتقي للنقاش، أو وضع هالة حول الأمر والتلميح له، هو أمر مع كامل الأسف شديد الخطورة، خطورته في كونه سيستدرجنا خطوة بخطوة، ويضع لنا السم في كل ضحكة سخرية، واستهزاء بما تسمعه أذنانا ولا نصدقه، سنحقن تحت جلودنا الآن، ولكن المصل المسموم سيتم ممن أصابه الكثير منا دون وعي إن لم نقف في وجه هذا السخف الذي هو بالمناسبة يخالف جميع المواثيق والاتفاقيات التي وقعنا بصدر رحب عليها وبإيمان كامل تماشينا معها قانونا ودستوراً.

فتسجيل الموقف ومحاولة إيقاف هذا السم من السريان مستخدما خدعة الرائحة الذكية، هو أمر لا يحتمل الشك أو التفكير بل هو ضرورة ملحة من أجل تطبيق قواعدنا ودستورنا، ومن أجل وقاية ذوي المهارات الأقل والنفوس الأضعف، والأجيال التي ما زالت في طي التنشئة والتكوين، وليعلم القاصي والداني أن النساء كتبن على أنفسهن عهدا أنهن لن يكن مرة أخرى بوابة العبور لأى منتهز ولا مادة خام لتحقيق شهرة ومال ولا حلقة ضعيفة للصعود لقطمها ورميها مرة أخرى، فلنتوخَ الحذر ولنستمر في إعلان رفضنا حفاظاً على استجابة عقولنا في المقام الأول وحفاظا على جميع مكتسباتنا السابقة التي لن نقبل بسلبها بالتلاعب، بالمبررات والحجج.