رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وثائق وأسرار معركة «المهاجر» (1)|يوسف شاهين فى مكتب شيخ الأزهر

يوسف شاهين
يوسف شاهين

تظلم «المهاجر» إذا اعتبرته وصنّفته على أنه مجرد فيلم سينمائى، حتى لو خلعت عليه كل أوصاف الروعة والسحر، ذلك لأنه أكبر من ذلك وأخطر، ولا نبالغ عندما نقول إنه تجاوز فكرة العمل السينمائى، وتحول إلى معركة طاحنة اختلطت فيها السينما بالسياسة وبالمقدس الدينى، وأثارت من الصخب ما جعلها تسرق الأضواء والاهتمام حينها من قضايا مصيرية، وتجاوزت أصداؤها الحدود المصرية وراحت العيون فى العالم العربى والغربى تتابعها باهتمام وشغف، وتترقب وتترصد تطوراتها وفصولها وجلسات المحاكمة ومصير الفيلم وصاحبه.. بل مصير وطن كان يخوض معركة حياة مع طيور الظلام.

وفى العام ١٩٩٧ عُرض «المهاجر» لأول مرة تليفزيونيًا، ولم يكن الأمر مجرد عرض تليفزيونى أول لفيلم سينمائى، بل كان نهاية لمعركة شرسة خاضها مخرجه يوسف شاهين، حارب فيها على جبهات عدة، وفى مواجهة خصوم شتى، كلهم تكتلوا لمنع الفيلم ومصادرته، ووصل النزاع إلى ساحات المحاكم، حتى نجح فى الانتصار لفيلمه وظهر للنور. وبعد مرور ربع قرن على نهاية هذه المعركة نتصور أنها تستحق قراءة جديدة ورؤية مختلفة، ونتصور أن «المهاجر»- الفيلم والقضية- لم يبح بعد بكل أسراره، ويحتاج إلى جهد حقيقى فى التنقيب عنها والكشف عما خفى منها، وتقديم صورة كاملة عن الفيلم الذى أقام الدنيا وشغل الناس وتسبب فى تغيير القوانين فى مصر.

سر قرار تحويل قصة النبى يوسف إلى فيلم سينمائى

السؤال الأول والأهم والذى يفرض نفسه كمدخل لا بديل منه وعنه لتلك الأزمة هو: لماذا فكّر يوسف شاهين فى تحويل قصة النبى يوسف الصديق إلى فيلم سينمائى.. وفى ذلك التوقيت بالذات «العام ١٩٩٤»؟

بحثت طويلًا عن إجابة مقنعة حتى وجدتها لدى ناصر أمين المحامى الشاب- وقتها- الذى اختاره المخرج الكبير ليتولى الدفاع عنه وعن فيلمه «المهاجر» بعد القرار بمنع عرضه، لا نريد أن نستبق الأحداث، ولكن السياق يقتضى أن نسمع إلى هذه الشهادة التى اختصنا بها ناصر أمين والتى تشرح وتوضح السياق الذى قرر فيه يوسف شاهين أن يُظهر النبى يوسف على شاشة السينما، وأحاول أن أنقل الشهادة بمنتهى الدقة: 

«فوجئت باتصال ذات صباح من مكتب يوسف شاهين يدعونى للقاء عاجل معه، وفهمت أنه اختارنى لأكون محاميه فى قضية (المهاجر)، وبالفعل ذهبت إليه فى اليوم التالى، لكنه ظل يتحدث معى لنحو ساعة كاملة فى أمور لا علاقة لها بالقضية، وسألنى عن أحوالى الخاصة وعن المشاكل التى تواجهنا نحن جيل الشباب وقتها، وكيف نتصرف إزاء الأزمات الضاغطة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، وأجبته عن كل أسئلته وتساؤلاته، وعندها أفصح وأوضح أن ما تحدثنا فيه هو بالضبط الذى جعله يفكر فى فيلم عن يوسف الصديق، فالشباب المصرى فى مواجهة تلك الظروف العصيبة وجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مر، إما الاتجاه نحو التطرف الدينى والارتماء فى أحضان الجماعات الإرهابية، وإما الانسحاب والانسحاق والشعور باليأس والإحباط والهروب إلى الإدمان أو الهروب من البلد كله والهجرة غير الشرعية إلى المجهول، ولأنه- أى شاهين- لا يريد هذا المصير المظلم لهذا الجيل الشاب، لا إرهابيًا ولا مدمنًا، فإنه قرر أن يقدم له نموذجًا متفردًا يعطيه الأمل على الصمود والمواجهة والسعى للنجاح رغم العقبات والأزمات، وعندما بحث فى التاريخ لم يجد أكثر روعة من قصة يوسف الصديق، الذى تعرض لأعنف الأزمات الإنسانية، من جحود الإخوة ومحاولة للاغتيال وهو صبى، ثم الظلم الفادح الذى جعله يقبع سنوات فى السجن وهو برىء لم يرتكب جرمًا ولا ذنبًا، ورغم ذلك صبر وقدر على تجاوز إحباطاته حتى صار عزيز مصر ومسئولًا عن خزائن الأرض.. وفهمت عندها لماذا اختارنى شاهين أنا المحامى الشاب للدفاع عنه فى قضيته، وكانت مصر يومها متخمة بأسماء ذات شأن من كبار المحامين وشيوخ القانون، ذلك لأنه اعتبرنى واحدًا من هذا الجيل المستهدف من الفيلم، وأننى علىّ أن أدافع معه عن حلمه وقضيته ليس كمحامٍ وإنما كشريك فى الحلم والقضية».

فيلم عن يوسف النبى لم يكن إذن مصادفة ولم يخطر فجأة على بال يوسف المخرج، بل كان أمرًا فرضته الظروف والأحداث، فهو إذا شئنا الدقة كان ابن السياق العام الذى عاشته مصر حينها، وولد فى ذروة ما عُرف بسباعية الدم، وهى السنوات السبع بين ١٩٩٠ و١٩٩٧، والتى شهدت موجة عاتية من الإرهاب الدينى وحوادث التفجير والاغتيالات، ودخلت فيها الحكومة مواجهة مسلحة مع تلك الجماعات الإرهابية التى استقطبت شباب مصر وغسلت أدمغتهم بأفكار مسمومة ودفعتهم للعنف والانتقام.

وفى قلب المعركة، رأى يوسف شاهين أن المواجهة الأمنية وحدها لا تكفى، وأن السينما يمكن أن تكون سلاحًا فى هذه المعركة لا يقل تأثيرًا عن الرصاص بل ربما يزيد.

«المهاجر» إذن لم يكن فيلمًا دينيًا، بل رسالة سياسية فى الأساس، أراد يوسف شاهين أن يخاطب بها طرفى المواجهة، أولهما الشباب الغاضب الذى حمل بعضه السلاح ضد الدولة وتورط فى العمليات الإرهابية، وذلك لكى يقول له إن يوسف الصديق تعرض لظلم أفدح منك بمراحل، لكنه واجه بصبر وثبات وعلم ويقين ولم يفقد الأمل أبدًا.

وثانيهما الدولة أو السلطة، لينبهها إلى البحث عن جذور الأزمة، وأن عليها أن تهتم بالمناطق العشوائية المحرومة من أى خدمات، فمنها يخرج هذا الشباب الغاضب الحانق ليفجر نفسه فى المجتمع الذى نسيه أو تناساه.

ويمكننا أن نضيف سببًا آخر لا يقل أهمية جعل يوسف شاهين يذهب إلى قصة يوسف الصديق بالتحديد، وهو إعجاب قديم بالسورة التى أفردها القرآن الكريم ليوسف عليه السلام وحكايته، فكان يرى أن الرواية القرآنية لقصة يوسف وإخوته، بتفاصيلها ووقائعها وتطوراتها وحبكتها وبلاغتها المعجزة، هى الأكثر روعة بين الروايات التى وردت فى الكتب المقدسة، ويراها كمخرج تتحرك أمامه فى سيناريو بديع بشخوصه وأحداثه.. خاصة شخصية يوسف الصديق بقدرته المذهلة على الصبر والاحتمال والمثابرة والتحدى وقهر اليأس، ورحلته من غياهب الجب إلى عرش مصر.

وفى هذا السياق كتب يوسف شاهين- بمشاركة د. رفيق الصبان- السيناريو الأول لفيلمه عن يوسف النبى.. كان السيناريو يفصح من عنوانه أنه يتناول قصة «يوسف الصديق»، وفى صيف العام ١٩٩٢ انتهى شاهين من كتابة السيناريو وذهب به إلى الرقابة على المصنفات الفنية للحصول على تصريح بالموافقة والتصوير كما تقتضى اللوائح والقوانين، ليبدأ الفصل الأول فى تلك المعركة الطويلة والمثيرة.

ملاحظات مجمع البحوث الإسلامية على السيناريو

كان الرقيب أمينًا مع يوسف شاهين، فبمجرد أن قرأ عنوان فيلمه وعرف قصته نصحه- حرصًا على وقته- بأن يتوجه به مباشرة إلى الأزهر الشريف للحصول على موافقته ومباركته على السيناريو، لوجود قرار سابق صادر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف يمنع تجسيد الأنبياء على شاشة السينما وفى الأعمال الدرامية، وفى ظل هذا القرار الصادر فى ٢٢ فبراير ١٩٧٧ وجرى التأكيد عليه بقرار محدث وردت إلى الرقابة صورة منه فى ٢٩ أبريل ١٩٩٢ أى قبل أسابيع فقط- لن تستطيع الرقابة الموافقة على تصوير الفيلم حتى لو كان مخرجه يوسف شاهين بكل تاريخه وشهرته ومكانته.

ورضخ شاهين للقرار، وفى ٣١ أغسطس ١٩٩٢ أرسل المخرج الكبير سيناريو الفيلم إلى الأزهر الشريف للحصول على موافقته، وكان عليه أن ينتظر القرار ٤٣ يومًا، إلى أن وصله الرد بتوقيع الشيخ فتح الله ياسين جزر مدير عام البحوث والتأليف والترجمة «التابع لمجمع البحوث» ويقول نصه: «السيد الأستاذ يوسف شاهين.. أفلام مصر العالمية، ٢٥ شارع شامبليون، القاهرة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.. فبالإشارة إلى خطابكم بتاريخ ٣١/ ٨/ ١٩٩٢ بشأن طلب فحص ومراجعة سيناريو فيلم (يوسف الصديق) تأليف رفيق الصبان ومن إخراجكم نفيد بالآتى: اشتمل السيناريو المذكور على تصوير شخصيات أنبياء الله وإخوة يوسف وهذا أمر ممنوع شرعًا.

وقعت بالسيناريو أخطاء تاريخية تخالف ما جاء بالقرآن الكريم، كما هو موضح بالتقرير.

وقعت بالسيناريو أخطاء فى الآيات القرآنية.

بالسيناريو وصف لنبى الله يعقوب بأوصاف لا تليق بمقام النبوة.

يتحدث عن سيدنا يوسف عليه السلام حديثًا لا يليق بمقام النبوة.

لكل هذا وغيره: يُعاد إلى سيادتكم سيناريو الفيلم لإعادة صياغته من جديد مراعيًا الملاحظات الموجودة بالتقرير المرسل إليكم صورته مع نسخة من السيناريو المذكور..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

وكان الرد مشفوعًا ومرفقًا به تقرير بتوقيع الشيخ أحمد عطاالله سعود الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، يتضمن حيثيات الرفض، وتضمن التقرير ٢٣ ملاحظة رقابية مفصلة «يتبين منها وغيرها أن مؤلف وكاتب سيناريو ومخرج فيلم (يوسف الصديق) قد ناقضوا ما ثبت فى القرآن عن قصة يوسف عليه السلام ولم يلتزموا النص القرآنى فيما حكاه رب العزة من وقائع هذه القصة، وأضافوا إليها الكثير من شطحات الخيال التى أوهنتها وأخرجتها من دائرة الحقيقة والواقع إلى مجال الأسطورة، وأضافوا إليها كثيرًا من العبارات الهابطة والمشاهد الخارجة عن تقاليد المجتمع وآدابه».

حوار فى الدين والسينما بين الإمام الأكبر والمخرج الأشهر

خسر يوسف شاهين الجولة الثانية، ولكنه من جديد لم يستسلم ولم يسحب مشروعه، وقرر أن يلجأ إلى رأس مؤسسة الأزهر وشيخها الأكبر وطلب موعدًا من فضيلة الدكتور جاد الحق على جاد الحق ليشرح له مشروعه ويناقشه فى فيلمه المرفوض ويوضح له المغزى منه والأسباب النبيلة التى دفعته لأن يختار قصة يوسف الصديق بالذات ليقدمها فى هذا التوقيت بالذات، وأنه يحاول به أن يدعم مؤسسة الأزهر نفسها- لكونها ممثلة الإسلام الوسطى- فى معركتها ضد التطرف والإرهاب. واستجاب الإمام الأكبر شيخ الأزهر جاد الحق على جاد الحق «تولى مشيخة الأزهر فى الفترة من ١٩٨٢ إلى وفاته فى ١٩٩٦»، وفتح بابه للمخرج الشهير واستقبله بتقدير يليق بمكانته وتاريخه، وأصغى إليه بصبر جميل وبال طويل وهو يشرح بحماس فكرة الفيلم ومغزاه ودوافعه النبيلة لخدمة الوطن والإسلام، وأنه قصد به أن يستخدم تلك القصة الملهمة لهذا النبى الكريم ليقدم لشباب اليوم القدوة والمثل على الصبر والاحتمال والتحدى واليقين فى الأمل، وأن ينزع من صدورهم دوافع الحقد والانتقام التى تجعل بعضهم يعادى الدولة ويحمل فى وجهها السلاح وينضم للجماعات الإرهابية. 

وفى ذلك الصباح من ربيع العام ١٩٩٣ أبدى شيخ الأزهر تعاطفه مع الفيلم ومقصده ومع مخرجه ونيته، لكنه لم يستطع أن يخالف رأى وقرار مجمع البحوث الإسلامية القاطع المانع لتجسيد الأنبياء على شاشة السينما، وخرج يوسف شاهين من مكتب الإمام الأكبر غارقًا فى حالة إحباط عارمة بعدما وصل مشروعه إلى طريق مسدود.

شاهين يُعدل النص والأزهر يُصر على الرفض

لم يستسلم شاهين للرفض، وقرر أن يخوض جولة جديدة يقدم فيها بعض التنازلات، فأجرى تعديلات على السيناريو، وقدمه من جديد إلى الأزهر الشريف فى نهايات العام ١٩٩٢ طالبًا موافقته، مؤكدًا استجابته لما طلبوه من تعديلات وملاحظات، ولكن الرد الذى وصله فى ٩ فبراير ١٩٩٣ لم يتغير عن الرفض القاطع، وهو ما يشير إليه خطاب الشيخ فتح الله جزر مدير عام البحوث والتأليف والترجمة الذى سبق أن وقّع على الرد الأول، وجاء فى الرد الثانى: «السيد الأستاذ يوسف شاهين- أفلام مصر العالمية- ٣٥ شارع شامبليون/ القاهرة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.. فبالإشارة إلى خطابكم الموجه إلى فضيلة وكيل الأزهر بتاريخ ٢٨/ ١٢/ ١٩٩٢ وإلحاقًا لكتابنا المؤرخ فى ٧/ ١٠/ ١٩٩٢ بخصوص قيامكم بإعادة صياغة فيلم (يوسف الصديق) تأليف رفيق الصبان ومن إخراجكم، وعلى ضوء ملحوظات الإدارة الموضحة بالكتاب سالف الذكر نفيد بالآتى:

تبين أن الكاتب لم يلتزم بحذف ما طلُب حذفه وإصراره على ظهور نبى الله يوسف الصديق عليه السلام، وهو أمر لا يجيزه الأزهر الشريف، لا قبل البعثة ولا بعدها، احترامًا وتقديرًا لرسالة الأنبياء والرسل الكرام.

السيناريو يحتوى على أخطاء فى اللغة العربية وبعض الآيات القرآنية، لذا فالإدارة ترفض تصوير هذا العمل بصورته الحالية لمخالفته القواعد الشرعية».