رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلى السيد علاء مبارك.. ولكن القرية لم تكن آمنة.. أو مطمئنة!

(١)

دأب السيد علاء مبارك منذ سقوط نظام مبارك على الإدلاء بآرائه فى الشأن المصرى العام تلميحا أو تصريحا، وهذا حقه كمواطن مصرى ولا يحق لأحد أن يسلبه هذا الحق. ولقد دأب المصريون على ممارسة حقهم المشروع فى التفاعل مع آرائه بأشكال مختلفة..

شخصيا لم يكن يعنينى كثيرا ما يقوله لأننى أعتبر أن مصر قد عبرت تلك المرحلة من تاريخها المعاصر بكل ما فيها وبلا رجعة، وأننا يجب أن نتطلع إلى مستقبل بلادنا على ضوء مستجدات ومفردات المرحلة الراهنة وما أنجزته مصر وما تواجهه.

 لكن آخر ما كتبه أثار حفيظتى جدا لأن رائحة التشفى فى أزمة مصر الاقتصادية واضحة فيما كتبه السيد علاء مبارك، وربما تطغى أعراض الأزمة على الحقائق لدى البعض فيتوهم هو أو غيره أن ما يدعيه حقيقة!

كثيرٌ من المصريين – وأنا منهم – لا زلنا نحفظ لشخص مبارك رحمه الله دوره الوطنى أثناء توليه مناصبه العسكرية، وفى القلب منها دوره فى أعظم حروب مصر الوطنية، كما لا ننسى له دوره التنموى ومشروعات البنية الأساسية التى غطت بعض مناطق مصر فى العقد الأول من سنوات حكمه.

لكن كل هذا لا يمنعنا من الرد على ما كتبه ولمح إليه السيد علاء مبارك مؤخرا! فهو يقصد بشكل مباشر أن أهل القرية وهم المصريون قد تمردوا وتنمردوا على الأمن والاطمئنان والاستقرار والرخاء الذى ساد حكم مبارك فأبدلهم الله جزاء تمردهم خوفا وفزعا وجوعا!

وهنا يجب أن نفصل بين حقيقتين، الثانية منهما أن مؤامرةً كانت هناك بالفعل ضد مصر، تآمرت فيها قوى الشر الخارجية وتواطأت فيها قوى ومجموعات بالداخل. لكن هذه الحقيقة الثانية لا تجبّ الحقيقة الأولى والأهم، وهى أنه لولا ما آلت إليه أحوال القرية -مصر- فى العقدين الأخيرين من حكم مبارك، لما استطاع المتآمرون تحقيق أى نجاح فى مؤامرتهم!

وفى هذا المقام وبصفتى أحد مواطنى القرية ممن نشأوا وكبروا فى سنوات حكم مبارك، وممن عاصروا تقريبا جميع أحداث تلك السنوات، وبصفتى كنت دائما من المهتمين بالشأن العام، فإننى أجد من حقى وواجبى تقديم تلك الشهادة – شهادة من شاهد بعينيه لا شهادة من قرأ فقط أو سمع فقط - حتى لا يختلط الحابل بالنابل، فتتيه الحقائق ويُظلم الذين كبشوا النار بأيديهم حتى تنجو مصر مما دُبر لها..

فهذه كانت بعض أحوال القرية أثناء حكم مبارك!

(٢)

ولنبدأ مما رأيت أنه مناسبة للتشفى والشماتة فى مصر والمصريين... الاقتصاد وسعر الجنيه والأزمة الاقتصادية! فمصر لا تعانى اقتصاديا الآن لأنها بطرت نعمتها أثناء حكم والدك رحمه الله، لكنها تدفع - وندفع معها راضين مطمئنين- ثمن حربٍ، خرجنا منها منتصرين منذ سنوات قليلة فقط لكى نطهرها ممن تمكنوا من نشب مخالبهم بها فى عقود حكمه!

لن أحدثك عما يعرفه العامة والخاصة من سكان كوكب الأرض عن أزمة اقتصادية كونية، وتغيير نظام العالم السياسى والاقتصادى، وتصارع القوى الكبرى  ومعاناة غالبية شعوب العالم من توابع ذلك الصراع..لن أحدثك عن ذلك فأنت به أدرى منا، لما تملكه من خبرات كبرى فى مجال البيزنس والبورصة وعوالمهما الخفية!

لكننى سأحدثك عما حدث فى مصر، وشاهدتُه وقت حدوثه، وشاهدتُه ونحن ندفع ثمن الخلاص منه!

هل تعلم ما هو حجم وتكلفة حرب مصر العسكرية منذ ٢٠١٣ وحتى أزمة كوفيد؟

 وهل تعرف ما معنى اقتصاد الحروب؟ 

وهل تعرف أن نسبة خسائر مصر الاقتصادية فى تلك الحرب إلى جملة موازنتها ربما تقارب نسبة خسائرها فى حرب أكتوبر؟!

وأن عدد شهدائنا ومصابينا فى تلك الحرب يقارب ثلث شهدائنا ومصابينا فى حرب أكتوبر؟!

والأهم هل تعرف أن مصر كان يمكنها تجنب تلك الحرب، لو أن نظام مبارك كان قد قام بما كان يجب عليه القيام به؟!

لقد شاهدتُ بعينى مساجد مدن بأكملها فى صعيد مصر تحت سيطرة شيوخ الإرهاب والتطرف فى تسعينات القرن الماضى! عشرات الآلاف من الزوايا تُبنى لكى ترتع فيها الأفاعى! 

تم تسليم مساجد مصر بشكل شبه كامل لأئمةٍ يعدّون الأرض ويغيّبون عقول المصريين لفقد بوصلتهم حين تدور رحى  المعركة التى أُريد أن يتم فيها تمزيق مصروحرقها وتحويلها لكومةٍ من خراب دموى طائفى دينى!

إمبراطوريات اقتصادية كاملة تخضع لجماعة الدم والإرهاب تكونت وتغولت فى أرض مصر فى نفس الحقبة!

 كانوا يأخذون أموال المصريين ليقاتلوهم بها فى يومٍ من الأيام،حدث ذلك فى نفس الحقبة من حكم مبارك!

لقد كانت القرية مختطفة، ولم تكن آمنة مطمئنة! 

اختطفها شيوخٌ وعصابات وجماعات ورجال أعمال يعملون لصالح تنظيم دولى - مسلح ومسيطر عليه مخابراتيا - جعل من احتلال مصر – حقيقة لا مجازا - هدفا وغايةّ!

كانت عقول أهل القرية، ومساجدها واقتصادها مختطفة..!

وكانت كنائس القرية غير آمنة فى أعياد قبطها!

إن القرية وأهلها قد خاضوا حربا فُرضت عليهم فأجهضت اقتصادهم وكادت أن تعصف بوجود القرية ذاته! 

خاض أهل القرية حربهم دون تململ أو محاولة للهرب من الحرب الحتمية و واجبهم الحتمى، فسددوا الفاتورة كاملةً!

 لكن بقى ألا تهرب أنت من الحقيقة..أن هذه الحرب التى خاضتها القرية وأهلها ودفعت ثمنها دما واقتصادا، كانت حربا حتمية لتخليص القرية من الأفاعى والضباع التى اختطفت القرية فى عهد حكم والدك رحمه الله وغفرله!

ربما كنا نصدق أنه لم يكن ممكنا أفضل مما كان، لو لم تقم القرية -التى تشمتَ بها الآن- بفضح العجز والتواطؤ!

فلقد رأينا فى سنوات قليلة أنه من الممكن خوض المعركة، واسترداد المساجد ومعها عقول وضمائر المصريين وفطرتهم وشخصيتهم، ومن الممكن أن ندهم أوكار الأفاعى!..

لقد كان ممكنا تجنيب القرية تلك الحرب لو توفرت الإرادة وصحت النوايا!

فمصر الآن مازالت تسدد فاتورة مواءمات نظام مبارك مع الشيطان!

(٣)

إننى أعتقد أن السيد علاء مبارك صادقٌ فى تعبيره عما يعتقد! فهو يعتقد حقا أن القرية كانت آمنة! 

تماما كما قال شقيقه الأكبر فى حوارٍ مذاع قبل أحداث يناير، وحين كان الدولار يساوى حوالى ستة جنيهات!

لقد قال شقيقه وقتها إنه يعتقد أن دخل أقل أسرة مصرية حوالى خمسة آلاف جنيه!

 فهذه هى القرية التى كان يعرفها السيد علاء وشقيقه جمال! 

وهذا ليس عيبا أو تقليلا من شأنهما، فليس عيبا أن تكون متيسرا ماليا، فأنا لست من الحاقدين طبقيا، وأعرف عن جمال وعمله فى إنجلترا قبل أن يعرف ذلك غالبية المصريين، حين كان معى فى مجموعة إنجليزية أحد العاملين معه بالبنك قبل عودته واستقراره بمصر!

فأنا أعلم عنهما الكثير منذ أول إشارة إليهما إعلاميا على شكل تساؤلات على لسان د.محمد حلمى مراد، ورد الرئيس الراحل على تساؤلاته بأن (ابنه الأصغر لديه مزرعة صغيرة بينما ابنه الأكبر يعمل بالخارج!)

وكل ذلك طبيعيا وعاديا، لكن ما يؤخذ عليهما من وقت لآخر هو التعريض بمصر وقيادتها الحالية التى كبشت النار بأيديها حين تصدت لخوض المعركة وتولت زمام الأمور حين كانت تلك الأمور جمرة نار!

كان خوض المعركة هو أشبه بعملية فدائية لإنقاذ مصر!

 وفى هذا التعريض الذى يقومان به من وقتٍ لآخر، يتم بث وإلقاء مغالطات كبرى عما كانت عليه مصر سنوات حكم مبارك، وعما تم فى السنوات الأخيرة فى كافة الملفات!

ثانى الأسباب لأزمة مصر الاقتصادية يمكن للسيد علاء مبارك إدراكه بسهولة إذا ما قرر القيام بجولة فى جميع الأحياء من فئة الأسمرات وأخواتها!

 ثم يقوم بعمل دراسة اقتصادية لمعرفة كم تكلفت مصر لكى تستر عار نظام مبارك الذى علق بثوب مصر، وكان يتاجر به بعض مَن تآمروا على القرية فيما بعد! 

تاجروا به فى قنواتهم وأعمالهم الفنية والمحافل الدولية!

هل خبرتَ يوما أن تترجل وتشاهد مثلا ماذا كان يحدث أسفل الكبارى؟!

 هل تعلم عدد أطفال الشوارع الذين دفعت مصر الحالية ثمن إيوائهم؟!

(٤)

هل تعلم يا سيد علاء لماذا ستظل مصر تلهث عقودا حتى تبدأ أجيالٌ أخرى فى استشراق مستقبل اقتصادى أفضل؟

 لأنه فى عصر السلام بعد انتهاء حرب أكتوبر بسنوات وحين تولى الرئيس الراحل مبارك الحكم، كانت مصر مهيأة تماما لانطلاقة اقتصادية كبرى...

وللحق والتاريخ، فقد قام الرجل بمحاولات كبرى فى الفترة الرئاسية الأولى وبدايات الثانية، لكنه كان كمن يحمل قربة ماء وهو يعلم أن بها مئات الثقوب، وبدلا من رتق الثقوب قرر فى نهاية المطاف إلقاء القربة بأكملها فى ثلاجة كبرى!

لقد أفسد جهودَه تماما عدمُ استجابة المصريين لجهود تنظيم الأسرة، كان المسؤل عن ذلك بشكل واضح جيلٌ كامل من رجال الدين استسلم النظامُ لهم تماما فدفع ثمن استسلامه ودفعت مصر ومازالت تدفع الثمن!

فى عقب كل إجراء إصلاح اقتصادى فى السنوات الأخيرة، كانت تنتشر على صفحات السوشيال ميديا بشكل منظم كوميكس تترحم وتشتاق لأيام مبارك وتتحدث عن عبقريته وعبقرية نظامه فى إدارة مصر!

 وربما العبارة الأكثر تكرارا على لسان مواطن فى أحد الكوميكسات، هى عبارة موجهة للرئيس الراحل (أموت واعرف إنت كنت مدورها أزاى؟!)

ربما من الناحية الإنسانية يكون منطقيا أن يطرب الابن لتلك العبارات، وتثير حميته للتعبير عما يختلج فى صدره من مشاعر غيظٍ مكتومة مما حدث فى مصر منذ يناير ٢٠١١.

لكن ربما تكون الفرصة مواتية ومناسبة الآن لإجابة ذلك السؤال الذى يشغل بال كثير من المصريين..( هو مبارك كان مدورها إزاى؟!)

الإجابة ببساطة كانت تجميد مصر! 

فى لحظة معينة قرر مبارك وضع فيشة المجمد الأكبر فى العالم لتجميد وطنٍ بكل تفاصيله! فلا حياة ولا موت! 

ربما كانت لحظة هزيمة سرية للرجل لا نعرف عنها شيئا، أو لحظة استسلام وإحباط  ويأس بعد هزيمته فى معركة الصراع بين معدل التنمية ونسبة النمو السكانى، أو لحظة أنانية تم فيها اتخاذ قرار بالتضحية بكل شىء من أجل مقعد الرئاسة!

توقفت مشاريع البنية الأساسية وفى ظل سنوات قليلة تهالكت!

توقفت مصانع وتم تكهين بعضها وبيع بعضها الآخر وانهارت صناعات!

تم الإطاحة بحفنة من التكنوقراط الوطنيين الثقال الذين كانوا مهندسى النهضة التنموية فى سنوات حكمه الاولى!

ترتب على توقف البنية الأساسية فساد محطات تنقية المياه وتفشى أمراض بعينها فى مصر نتيجة تلوث المياة مثل فيروس سى والسرطان ففتكت بالمصريين ووقفت الدولة عاجزة أو غير راغبة فى بذل أى جهد حقيقى كالذى قامت به مصر بعد ٢٠١٤م مباشرة!

تعاون زراعى مع دولة لدودة أدى إلى تخريب أراضٍ زراعية ونقل أمراض لم تكن متفشية فى مصر، ولما سُئل وزير زراعته عن ذلك قال جملته الشهيرة أن كل الوزراء سكرتارية ينفذون تعليمات الرئيس!

ابتدع نظام مبارك فى فترة التجميد هذه ذلك القرار غير المكتوب...الاحتفاظ بمسمى الشىء دون أن يكون مهما محتوى الشىء! 

فمثلا لدينا رسميا تعليم ولكن فعليا ليس لدينا متعلمون قادرون على النهوض ببلادهم!

بدأ التعليم الدولى يشق طريقه لفئة محدودة فى مصر بينما تغط الغالبية فى دوامة الجهل وتحمل شهادات ورقية جامعية! وجود تعليم مميز لفئة تدفع الثمن لم يكن خطأ، بل كان ضرورة لخلق فئة قادرة على القيام بدور القاطرة العقلية لأى وطن، لكن الخطأ الخطيئة كان التمسك بتعليم جامعى مجانى فارغ من التعليم!

فلا أنهى النظام تلك المنظومة ودفع بالمصريين لسوق عمل حقيقى ولا قدم تعليما حقيقيا يوفر للقاطرة أعدادا متعلمة كافية لانتشال مصر من ثلاثى الفزع (الجهل والمرض والفقر)!

هناك رغيف مدعم بخمسة قروش لكن فعليا كان هناك من يطعنون بعضهم بعضا بالسلاح الأبيض للحصول عليه فى العام الأخير قبل السقوط، ولا يجدونه لفساد ضمائر أصحاب المخابز وتواطؤ أجهزة الرقابة التموينية!

والآن يمكننى أن أكشف أمرا أنا على يقين أنه كان فى غاية الغموض للسيد علاء..سر بطر أهل القرية على نعمة نظام مبارك! إننى أعتقد أن السيد علاء لا يزال حائرا ويهدئ حيرته بتقبل فكرة المؤامرة الخارجية وحدها سببا!

لم يتوقف ولن يتوقف أعداؤك عن إحاكة المؤامرات التى لن تنجح دون تواطؤ أهل الدار أو موافقتهم، فلماذا انضم أهل القرية البسطاء هذه المرة – ٢٠١١- للمتآمرين؟!

السر يكمن فى تعرضهم لإهانة أبت حلوقهم أن تبتلعها! أن يخرج رب أسرة مسن بعد صلاة الفجر ليقف فى ذروة البرد القارس للحصول على عدة أرغفة خبز فيعجز عن المزاحمة ويرجع خالى الوفاض!

لقد كان رصيد النظام يتآكل حتى وصل إلى ورقة التوت الأخيرة والتى كانت القشة التى قصمت وقصفت ظهر أهل القرية وأهانت كبرياءهم فخرجوا مع الخارجين!

(٥)

لم تكن القرية آمنة فى عصر مبارك..هذه حقيقة وليست مجازا! مناطق بأكملها وفى أطراف العاصمة كانت خارجة عن نطاق الأمن والأمان وفى قبضة آلاف من البلطجية ومسجلى الخطر ومخترفى الترويع! 

هؤلاء الذين قاموا بمهاجمة أقسام الشرطة وحرقها فى أحداث يناير وذهب ضحية لجريمتهم رجال شرطة لكى تكتمل تراجيديا الشرطة المصرية وتدفع ثمنا باهظا لعقود طويل! 

لقد وقفت الشرطة المصرية بمفردها فى مواجهة الإرهاب المسلح للجماعات التى وفر كثيرٌ من رجال الدين والفكر تبريرات لجرائمها، ثم دفعت مع مصر كلها ثمن لحظة سقوط النظام!

كان هناك عجز عن ضبط الأمن الجنائى للمواطنين، كما لم يوفر النظام للشرطة المدنية ما يمكنها من توفيره، مما أوجد نمطا شاذا من التعاون مع خارجين على القانون لمحاولة السيطرة الجنائية على بعض المناطق!

وفى لحظة السقوط، انقلب هؤلاء على من تعاونوا معهم لأن المجرمين بطبعهم يأنفون من الخضوع لأى سلطة قانونية!

كان هناك تجار مخدرات يتعاونون مع بعض القائمين على مكافحة المخدرات! 

فأى قريةٕ آمنة تلك التى تتحدث عنها؟!

(٦)

إذا ما تركنا لوهلة قصة ما كان يجرى داخل القرية، وألقينا نظرة عابرة على بعض الملفات الخارجية التى اكتوت مصر بنارها بمجرد سقوط نظام مبارك، فسوف تصدمنا حقائق ما جرى، وتلقى أمامنا بكومة من الأسئلة التى ظلت حتى الآن بلا إجابات شافية!

ملف النيل ودول العمق القومى الإفريقى وما حدث فى علاقات مصر معها.

لماذا قام الرئيس الراحل مبارك فى منتصف الثمانينيات بخطوة يتم تصنيفها على أنها الأخطر وبداية مرحلة الانسحاب المصرى من مناطق عمقها الاستراتيجى والحيوى، وهى قيامه بغلق وإنهاء أنشطة شركة النصر المصرية فى بعض الدول الإفريقية ومنها دول منابع النيل؟!

لماذا بدأ النظام فى تعيين سفراء مصريين فى بعض تلك الدول تم وصفهم على لسان بعض الدبلوماسيين الكبار أنهم – أى هؤلاء السفراء – غير ملمين بلغات وثقافات تلك الدول وعلاقات مصر التاريخية معها، مما أضر بمصالح مصر الحيوية هناك؟!

لماذا قامت الدولة المصرية بالتطوع بمنح أعدائها التاريخيين فرصة ذهبية للعبث بعمقها الجنوبى الحيوى، فكان كلما تركت مصر موضع قدم لها هناك، سارع هؤلاء فورا بوضع أقدام كُثر؟!

لقد ترك نظام مبارك مصر عارية فى مناطق جنوبية كانت تعتبر منذ عقود طويلة مناطق نفوذ ومصالح لا تقل فى أهميتها لمصر عن الحياة ذاتها؟!

يقولون إن نظام مبارك نجح فى منع إقامة سد الالفية ولم تستطع تلك الدولة الشروع فى ذلك إلا بعد سقوط النظام! 

عفوا فهذه ليست كل الحقيقة، بل إنه تدليس كبير! ففى مايو ٢٠١٠ وقعت مجموعة من دول حوض وادى النيل ما يسمى اتفاقية عنتيبى بدون مصر والسودان، كمقدمة لاتخاذ إجراءات دولية للجور على حقوق مصر القانونية فى مياه النيل!

 حدث هذا فى وجود مبارك، ولو لم يسقط النظام لاستكملت تلك الدول خطواتها بمساندة دول كبرى ولربما فرضت على مصر او انتزعت منها تنازلات قانونية أخطر فى تداعياتها على مصير مصر من هرولة تلك الدولة فى الشروع فى بناء سد بدون دراسات جدوى!

لهذا خاضت مصر بعد ٢٠١٤ معركتها طويلة الأمد ليس فقط لمواجهة خطوة تلك الدولة، إنما لحماية مصر وحقوقها وحقوق الأجيال التالية بالوصول لاتفاقات قانونية بمشاركة قوى دولية لتكون ملزمة لتلك الدولة!

وإن ألقينا نظرة عابرة على ملف آخر وهو قيمة المواطن المصرى خارج أرضه، فهل ما زلنا نتذكر ما كان يحدث للمصريين بالخارج؟! وكم السخرية من جواز السفر المصرى، وكيف تغير ذلك فى السنوات الأخيرة؟!

(٧)

السيد علاء مبارك، إن المقام لا يتسع حقيقة لسرد قوائم نعم نظام مبارك الذى تنعم فيها المصريون ثم بطروها فابدلهم الله خوفا وجوعا ألقيا عليك السعادة وفاحت رائحة التشفى فى كلماتك!

لكننى – وبشكل حقيقى جدا – أتمنى أن تدرك أنه إن كان حقك كمواطن أن تعبر عن رأيك، فإن هذا الحق سيترتب عليه حقٌ آخر للمصريين الذين شهدوا ولم ينسوا ما كان، وهذا سوف يجلب دائما رد فعل مضاد يذكرك ويذكر المصريين بسيرة حكم والدك رحمه الله بما تحب وبما لا تحب...

فهل أنت مستعد لمواجهة ذلك وتقبله؟ أم انك كابن تفضل عدم استفزاز هؤلاء لعدم نكش سيرته؟!

أسهل ما يكون أن نرد على الآيات القرآنية الكريمة بأخرى عن القرية التى أراد الله إهلاكها فأمر مترفيها ففسقوا فيها!

لكننى أربأ بآيات الله أن تُستخدم فى سجال سياسى أو تاريخى، لأننا بذلك نكون ما زلنا ندور فى نفس الفلك باستخدام الدين حسب الهوى!

فدعنا نتحدث بلغة الحقائق والمعلومات والأرقام، وكل ما نتحدث عنه كان قريبا جدا لا يحتمل أى مغالطات، فالشهود مازالوا على قيد الحياة!

ربما يفاجئك أن كثيرا – مثلى - ممن يتهمون نظام مبارك ويحمّلونه مسئولياته التاريخية عما ألمّ بمصر فى العقود الأخيرة، هم لا يكرهون مبارك رحمه الله بشكل شخصى، بل على العكس تماما.

لم نكن نتمنى أن تكون تلك هى الخاتمة الشعبية لحياة الرجل الذى قام بواحدٍ من أشرف الأدوار الوطنية التى يمكن لقائدٕ أن يقوم به!

كم كنت أتمنى أن يكتفى مبارك بفترتى رئاسة، ويبادر هو من تلقاء نفسه لطلب تعديل أو تصويب الدستور المصرى، ثم يختم مهامه الوطنية  بهذا الشرف، ليكون خروجا مثاليا شريفا ومشرفا ويترك مصر فى فتوتها وعنفوانها أو على الأقل قبل أن تشيخ وتترهل ويرتع فى أراضيها اللصوص وتبث فى عقول أهلها الأفاعى السمومَ، وتنهشهم الضباع!

لكنه لم يفعل فكان ما كان! 

ودفعت مصر - ومازالت تدفع وندفع معها جميعا - هذا الثمن الباهظ لكونه لم يفعل! 

نحن – كمواطنين – لسنا فقط شهودا، بل طرفا أصيلا فى المشهد، كثيرٌ منا فقد عملَه أو مدخراته وتبدلت حياته، بل ومنّا مَن فقد عزيزا لديه فى غبار المعارك التى خاضتها مصر ثمنا لسياسات عهد مبارك فى الحكم!

لذلك فنحن جميعا – كمواطنين مخلصين لهذه البلاد ولا ندين بولاء لغيرها - شاركنا فى تكلفة هذه الحرب، ولم نحزن أو نغضب أو نمنّ على بلادنا بتلك المشاركة التى اعتبرناها ضريبة رخيصة جدا فى سبيل الاحتفاظ بوطن!

لكننا لن نقبل قلب الحقائق أبدا، أو تسفيه ما قمنا به وقدمناه لبلادنا، فى وقتٍ كان هناك من ينتظر سقوطها فقط ليكتب تغريدة شامتة انتقاما من وطنٍ رفض استمرار وضعه فى ثلاجة موتى وهو على قيد الحياة!

فسلامٌ على أرواح الشهداء الذين قضوا نحبهم ليبقى لنا وطنٌ، وتحية لكل يدٍ تضع لبنة فى إعادة بناء هذا الوطن.. ولا سلاما لأى شامتٍ به أو بنا مهما يكن اسمه أو موقعه أو لقبه!