رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رواية اليد الكبيرة

فريد عبدالعظيم
فريد عبدالعظيم

يده ثقيلة، يكبل بها صدرى دون سبب، أحتج فيقول: يدى أمان، أحتضنك بها حتى تطمئن، حائط صد يمنع تسلل الكوابيس إلى أحلامك.

يده ضخمة، أصابعه غليظة ورسغه واسع الاستدارة، ساعده سمين، وذراعه تطبق على أنفاسى. 

أحاول التملص، أزيح ذراعه عن صدرى، أتقلب على السرير، أبتعد، يلاصق جسدى الحائط. أكتشف أننى مهما حاولت الهرب لا أمل. يقترب، أشم رائحة الجبن المختلطة بالتبغ المنبعثة من أنفاسه. يجذبنى بيده، يحكم ذراعه حول جسدى ثانية، يتثاءب وهو يقول: الحيط بيجيب رطوبة ابعد عنه.

مشهد يتكرر كل يوم. أحاول الهرب ويده الطويلة تأبى أن تنفك عنى. منذ أن فتحت عينى على الدنيا وظلمته تحاوطنى من كل جانب. بدين وفارع الطول، غرفتنا صغيرة وكرشه يأخذ الحيز الأكبر منها.

اسمه ناجى بيومى، أصلع وسمين وبطنه كالحامل فى شهرها التاسع. مقطب الجبين بلا غضب وصوته جهور دون عراك. 

شريكى فى السكن رغمًا عنى. كثيرًا ما تساءلت: لماذا دونًا عن بقية البشر أرزق أبًا شخيره مزعج ومفلسًا على الدوام؟ كيف سأتحمل مرافقته لسنوات كثيرة مقبلة؟. الشباك الوحيد فى غرفتنا ضيق لا يتسع لرأسينا، والسرير مُزعزع لا يتحمل كلينا.

كثيرًا ما فكرتُ بالرحيل، كلما رسمت الخطط للخروج من باب غرفتنا بلا عودة سخر منى جارى «علاء القاضى»، ويقول هازئًا: بطل لعب عيال، لِم نفسك أحسن أبوك يضربك.

لستُ بطفل؛ تجاوزت التاسعة بشهرين أو يزيد، ثم إننى لا أخاف، مَن هذا الذى سيكسر عظامى؟ أبى لم يتعارك يومًا فى حياته، لا معى ولا مع غيرى. عمرى ما ضبطتُه فى وضعية الهجوم، تمامًا مثل الجندى الجبان أول ما تبدأ المعركة يهرب.

طنط عطية الله واظبت لأسبوع كامل على وضع زبالتها النتنة على باب حجرتنا. أقول له «اضربها» فلا يرد، أعايره بخنوعه فيهرب إلى الشباك. أغتاظ من سلبيته، أفتح الباب وأنا أرفع صوتى وأتوعد. 

أهم بطلوع السلم كى أؤدبها، ينتفض ويهرول نحوى، قبل أن أصل إلى شقتها يمسك بى، أود سبها. للأسف يضع يده على فمى قبل أن أبدأ، أحاول إزاحتها، أعض إصبعه، يكبلنى بيده ويحملنى على كتفه، يعيدنى إلى غرفتنا وقبل أن ينطق لسانى بكلمة تأنيب يهرب إلى خارج الغرفة. أمد رأسى من الشباك، أتابعه وهو يمشى وبيده شنطة «زبالتها»، وأبكى. 

بحياتى بعض المميزات، فى بداية كل عام دراسى أحظى بملابس جديدة وحقيبة زاهية تحمل صورة الكابتن ماجد، بحذاء أسود لامع وكوتشى باتا ناصع البياض، أمتلك الكثير من البلى الملون، وأطفال شارعنا يحسدوننى على دراجتى ذات الكشاف.

كلهم يقولون: يا بختك.

أما أنا فألعن حظى السيئ.

فكرت كثيرًا حتى اهتديت إلى سبب ضيقى الدائم، الخجل ولا شىء غيره هو ما ينغص علىّ حياتى، أخجل من أن ناجى بيومى هو أبى.

«٢»

أحب أيام الدراسة، تحررنى من سلطة ناجى، ألعب وأنطلق كما يحلو لى، ما يثير ضيقى شيئان: إصراره على توصيلى إلى المدرسة، وزيارة الحلاق الأسبوعية.

دكان أبواليزيد «المزين» يقع أسفل بناء شبه متهدم، كان فيما مضى عمارة ذات أربعة أدوار. ابتلاه الزمن بالشيخوخة فهجره سكانه، الكل نفد بجلده إلا هو، أصر على المكوث، عمره تجاوز السبعين لذا لا يهاب الموت، هكذا قال أبى.

لا زبائن إلا فيما ندر. كان الله فى عون من يسلمه رأسه، تصفيفات عتيقة وفم لا ينغلق أبدًا. يجلس وحيدًا أغلب النهار على كرسى أمام دكانه، يراقب الطريق ولا يمل من تحريك لسانه.

أعتقد أن أبى هو صديقه الوحيد، ساعتان يوميًا يفارقنى فيهما ليعرِّج إليه. لحظات من المتعة أختلسها حينها، البيت دون ناجى جنة، أجلس على راحتى وأمضغ اللبان السحرى، أطرقعه كما يحلو لى، ألوكه وأخرجه على طرف لسانى لأرى تغير لونه، أصنع البلالين، أنفخها فتنفجر، أضحك وأنا أزيل بقاياها من على أنفى وموضع شاربى المستقبلى.

أُصبح ملكًا، حاكم الغرفة أنا الآن بلا منازع، لا تعليمات تُلقَى علىّ ولا تلميحات تعكر مزاجى. أمشى حافيًا كما أحب، أستمتع بالبرودة وهى تغزو قدمى. أرفع صوتى وأغنى، سأصبح مطربًا ذات يوم بالعند فى أبى.

دائمًا ما يسخر من صوتى ويؤكد أنه «مسرسع»، لا يفهم بتاتًا فى الطرب ويعتقد أن الصوت الغليظ هو المميز، كرهت الراديو بسببه، أول ما يغادر أغلقه، مللت من المرأة ذات الصوت الرجولى التى يجبرنى على الاستماع لأغانيها الطويلة.

«أم كلثوم» دائمًا ما يَنطِق اسمها بإجلال. هو لا يعرف حتى اسم مطربته المفضلة، وربما ابنتها لا تسمى «كلثوم» بالأساس. كلما عايرته بجهله ضحك، أقول له: ليست بائعة خضر. اسأل زملاءك فى العمل عن اسمها الحقيقى. 

يقهقه ولا يرد، لا يفعل شيئًا فى حياته غير الضحك والوقوف خلف الشباك.

المشوار إلى دكان أبواليزيد المزين مقدس أيام الدراسة، فى الإجازة أحيانًا ما أستطيع الهرب. أكره تسليم رأسى لذلك العجوز، نظره ضعيف ومَوْسِه ثلم، يرش قفاى بكولونيا مريعة ليدارى أخطاءه، أتمنى أن أصفف شعرى مثل نجوم السينما وهو لا يجيد إلا حلاقة الجيش، يعرف أننى لا أطيقه ومع ذلك يصر على أن يقلِّم أظفارى، يعتبرها خدمة لصديقه، فأبى يخاف قصها لى. أذهب أسبوعيًا أيام الدراسة، أسلمه يدى وأنا مرعوب، يمسك القصافة ويُمثل التركيز، تكاد أن تلامس عيناه يدى ومع ذلك يخطئ، يجرحها كعادته فيرش الكولونيا، أصرخ فيناولنى البنبون الملون. أحاول الركض إلى خارج الدكان فيمسك بى، يدفعنى إلى كرسى الحلاقة لأكمل رحلة العذاب.

مهما كبرت موقف أبى لا يتبدل، يصر على توصيلى يوميًا إلى المدرسة، أعترض فلا يبالى، أؤكد أننى أحفظ الطريق عن ظهر قلب، يضحك فأقسم إننى لن أذهب إليها ثانية. 

بعد كثير من الشد والجذب توصلنا إلى حل وسط؛ قسمنا الطريق إلى ثلاث مراحل: من بيتنا إلى الشارع الرئيسى أسير بمفردى، يراقبنى عن بُعد، بالتحديد ثلاث خطوات هى ما تفصلنا، أول ما تظهر السيارات يظهر، الضخم خطوته هائلة، يجتاز الثلاث خطوات بخطوة واحدة، نتجاور لدقائق حتى نعبر الشارع الرئيسى، نصل أخيرًا إلى ناصية المدرسة، يصطنع النسيان فأوقفه بنبرة محذرة. أخيرًا يتركنى، أسير وحدى بالشارع الضيق المؤدى إليها وأنا فى غاية السعادة، أعبر الباب، ألمحه يلوح لى فأعطيه ظهرى، أعرف أنها تحية وداع لكن لا وقت الآن لمبادلتها، أهرول إلى الداخل فقد تأخرت بسببه وفاتنى الطابور كالعادة.

من رواية اليد الكبيرة، الفائزة بجائزة إحسان عبدالقدوس للأعمال غير المنشورة