رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مذكرات حكمدار القاهرة

هو توماس راسل حكمدار القاهرة في فترة الاحتلال، خلال الفترة من 1902 حتى 1946. 
يعد واحدا من أهم ضباط البوليس الإنجليزي في مصر، من الغريب أن تصدر مذكراته عام 1949 وتظل دون ترجمة حتى ترجمها مصطفي عبيد عام 2020، ونشرها المركز القومي للترجمة، بعد أن مضى على نشر الكتاب 70 عاما. 
هل هي نظرة الارتياب فيما يكتبه المحتلون عنا؟ أم أنه التعصب؟
لقد تم استبعاد مذكرات وشهادات معظم الإنجليز عن مصر. وبنفس المنطق أيضا تأخرت ترجمة موسوعة وصف مصر التي ألفها علماء الحملة الفرنسية بعد عودتهم من مصر عام 1802، وبنفس الحجة أيضا تأخرت ترجمة كثر من الروايات التي تتحدث مصر، ومنها رباعية الإسكندرية للإسكتلندي لورانس داريل. 
توماس راسل وفد الى مصر عام 1902، وقضى فيها 44 عام متنقلا في وظائف البوليس المختلفة من أقصى الصعيد إلى المدن الصحراوية بطبيعتها الخاصة، حتى انتهى به المطاف حكمدارًا للقاهرة. الكتاب يعد سجلا وافيا للجريمة مصر والحالة الأمنية في تلك الفترة، ويتعرض لمختلف الجرائم التي وقعت في مصر، من جرائم الدعارة الى الجرائم السياسية والاغتيالات والمظاهرات التي تنادي بطرد الإنجليز.
الكتاب موسوعي من حيث كمية المعلومات التي يقدمها، يحكي جانبا من التاريخ المصري بطريقة لم نتعودها، لم يدس أنفه في الوقائع، بأسلوب لم يتعود عليه كتابنا ومؤرخينا. أنه يتحدث عن المجتمع والناس. 
يقول راسل في مقدمة كتابه: أنه يهدف إلى تقديم إطلالة على حقبة زمنية من تاريخ مصر الحديث، ولم يتم توثيقها بشكل جيد، وهي الفترة المتأخرة للورد كرومر، فترة المستشارين الإنجليز ومفتشيهم الإقليميين. هؤلاء لعبوا دورا هاما في الحياة السياسية والاجتماعية لمصر. 
يقدم راسل رأيه في الجريمة السياسة كضابط بوليس، ويرى أن الجريمة السياسية شائعة في كل دول العالم، وكان له دور في التعامل معها، ولكن من منطلق أنه ضابط شرطة، تنحصر مهمته في طاعة الوزير المسئول، ووقف الجريمة، وتقديم الجناة للمحاكمة. 
ويتحدث راسل عن جهود مصر في مكافحة تجارة المخدرات ويرى هبوط وصعود المقاومة المسلحة للقبض على عصابات المهربين من جنسيات مختلفة، كان الأصعب والأكثر خشونة هم عرب الصحراء، ففي الماضي عندما تم جلب الحشيش من اليونان ليتم تهريبه من خلال قوافل العرب القادمة لمصر عبر الصحراء الغربية من الموانئ الساحلية، كان العرب المنخرطون في تلك التجارة مسلحين جميعا، بل كانوا افضل تسليحا من خفر السواحل، ولم يكن لديهم تردد في استعمال أسلحتهم، والمعروف أن أبرز ملامح الصحراء الغربية هي الكثبان الرملية جنوب واحة سيوة، ومنخفض القطارة المعروف بالسبخة والذي يمتد 150 ميلا شمال شرقي سيوة، ليبقى ممرا ساحليا يفصلها عن البحر في منطقة العلمين.
يتحدث في أحد أجزاء الكتاب عن المجتمع السفلى للقاهرة. ويتحدث عن منطقة وش البركة باعتبارها مكان للدعارة الغير مرخصة رسميا، كان فيها بعض الأوروبيات الحاصلات على رخص بغاء، وكانت هناك منطقة أخرى هي الوسعة وفيها مصريات ونوبيات وسودانيات، وكانت تجارتهن تحت نظر وبصر الإشراف الصحي للحكومة، تلك المنطقة كانت داخل نفوذ رجل سمين ومخنث يسمى إبراهيم الغُرَبي, يجلس على دكة أمام بيته كل مساء، مرتديا ملابس نسائية وباروكة شعر، ويجلس صامتا كصنم، عندما يقترب منه أحد، يرفع يده المثقلة بالجواهر ليقبلها القادم، وكان يتمتع بنفوذ واسع، لم يقتصر على عالم البغاء فقط، بل تعداه إلى عالم السياسة ومجتمع النخبة، كانت التجارة في النساء كسلعة في القاهرة لا تتم إلا بمعرفته وإذنه. 
في عام 1916 كانت البلاد مزدحمة بالقوات الإنجليزية، وقرر هارفي باشا حكمدار القاهرة في ذلك الوقت اتخاذ إجراءات حاسمة للسيطرة على تلك المناطق المتخمة بالعاهرات والغلمان المخنثين الذين ينتشرون دون تراخيص رسمية، أقيم مكان في الحلمية لاحتجاز كل امرأة منحلة يتم ضبطها، وخلال يومين تم احتجاز أكثر من مائة امرأة، لم يكن من بينهم التابعات لإبراهيم الغُرَبي، وعندما تم الاستعلام عن ذلك من هارفي، نفي معرفته بهذا الأمر، وأصدر على الفور أمرا بضبطه. وبعد ساعة جاء ضابط ومعه رجل اسود ضخم يرتدي ملابس بيضاء وفي يديه وقدميه اساور ذهبية تشخلل خلال سيره، ولما كان الرجل يتمتع بالثراء، فقد أرسلت الحكومة حراسا لمنزله، حتى لا يسرقه أحد! تمت محاكمة الغُرَبي ومات في السجن. 
كانت النساء الأجنبيات وقوادهن الأجانب يتمتعون بحماية تكفلها الامتيازات الأجنبية، كانت تلك الامتيازات تعوق العمل، حيث كانت تقتضي وجود القنصل الذي يتبعه القواد أو المرأة عند القبض عليه، ولم يتمكن راسل ولا رجاله من الاقتراب من منزل بغاء، بسبب التغير الدائم لجنسية القوادة، فقد كانت فرنسية، وعندما طرقوا بابها اخبرتهم أنها باعت البيت لأخري اسمها جنتي إيطالية، وفي المرة الثالثة اصطحبت القوات القنصل الإيطالي، فقررت أن جنسيتها تغيرت لليونانية، مما أجبر القوات للقيام بسبع محاولات تم فيها تغيير سبعة قناصل حتى يتمكن البوليس من هزيمة العاهرات.
هذا الكتاب ليس تسجيلا لحياة شرطي، ولكنه تسجيل لجانب من تاريخ الناس، لقد كانت السنوات المبكرة في الأقاليم التي قضاها في بيوت وضيافة الأعيان، وتجول خلالها في حدائق الفاكهة، وشاركهم ألعابهم الرياضية وأفراحهم الجميلة، تعرف إلى حياة البسطاء الذين أهلوه للتعرف على مختلف المشكلات المصرية والتعامل معها. 
نتمنى أن تتيح الدولة لرجال الشرطة وغيرهم من المسئولين، كتابة مذكراتهم، والتي بلا شك ستفيد الباحثين والمهتمين في مختلف المجالات. لمصلحة مصر والمصريين.