رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حق المتهم

تلقيت دعوة كريمة من المجلس الأعلى للإعلام لمناقشة قضية مهمة أدار النقاش حولها الأستاذ كرم جبر رئيس المجلس.. القضية هى ضمانات المتهمين فى نشر أخبار الحوادث أو كيف تتعامل وسائل الإعلام مع أخبار الحوادث؟ هل تتعامل معها وفق المواثيق الأخلاقية والإعلامية؟ أم وفق نظرية «الجمهور عاوز كده»، وهى نظرية شهيرة طالما استخدمت لتبرير التجاوزات والتنازلات فى الفن والصحافة والحياة عمومًا.. إن من أصعب الأشياء على الصحفى أن ينتقد المهنة التى ينتمى إليها.. ولكن الحقيقة أن العديد من المواقع الإلكترونية باتت ترتكب جرائم مهنية فى تغطية الحوادث ربما من مصلحتنا جميعًا عدم السكوت عنها.. والأمر لا يحتاج سوى أن نتذكر جميعًا قواعد كانت موجودة بالفعل تعلمناها جميعًا ونحن نبدأ الصحافة فى التسعينيات وأظنها سهلة فى حفظها وفى تذكرها أيضًا.. أولى هذه القواعد وأهمها أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته.. وبالتالى فمن حقه عدم ذكر اسمه أو نشر صورته أو بطاقته الشخصية أو جواز سفره ما دامت المحكمة لم تحكم بإدانته.. ولم يصدر حكم رسمى يجوز بعدها أن نطلع الناس على اسمه وتهمته وبعض تفاصيل جريمته.. وقد كانت الممارسة المهنية فى الماضى تجعل الصحف تضع شريطًا أسود يخفى معالم وجه المتهمين فى القضايا المختلفة حفاظًا على حقهم فى الخصوصية وعدم التشهير بهم وعلى حق أسرهم أيضًا فى ألا يضار أفرادها جراء جريمة ارتكبها رب الأسرة أو أحد أفرادها.. وكان من الممارسات المهنية أيضًا أننا لا ننشر اسم المتهم كاملًا ولكن ننشر فقط الحروف الأولى منه حفاظًا على حقه فى عدم التشهير به ما دام لم يصدر فى حقه حكم قضائى بات.. لكن كل هذه التقاليد باتت أثرًا بعد عين.. وبعض المواقع الزميلة تنشر فيديوهات حية ليس فقط للمتهم ولكن لأسرته وجيرانه وأقاربه وربما للجريمة نفسها! وهذا كله مخالف لمواثيق الشرف الصحفى لكنه مطابق لقواعد «التريند» وتعاليم مديرى صفحات السوشيال ميديا الذين باتوا يعبدون الوصول لأكبر عدد من المستخدمين ويعتبرونه أساس النجاح وأساس الصحافة وأساس الحياة نفسها فى بعض الأحيان!

والسبب هو أن كثيرًا من هذه المواقع تعتمد على هذه الأخبار ودقائق البث المباشر فى تحقيق أرباح يتم تقاسمها مناصفة مع آلهة السوشيال ميديا الجديدة فيسبوك وتويتر وإنستجرام التى أظنها ورثت الأصنام القديمة التى نقل لنا التاريخ أسماءها مثل اللات والعزى وهبل!!

وبكل تأكيد لا رغبة لدىّ فى المزايدة على زملاء أعزاء وأشقاء يسعون للاستمرار والازدهار، لكننى أقول إن ما يحدث أشبه بزيادة نسبة ثانى أكسيد الكربون فى الجو.. ومن شأنه أن يخلق مناخًا خانقًا وأن ينتج هؤلاء هواء سامًا نستنشقه جميعًا فيصيبنا الدوار والبوار ثم نختنق جميعًا.. إننى لا أظن أن هذا الوضع الخانق سببه عدم التزام المهنية فى نشر أخبار الحوادث فقط، بقدر ما هو ناتج عن التوسع فى نشر أخبار الحوادث فى المواقع ذات الصبغة العامة التى يفترض أن تغطى شئون الحياة كلها لا الحوادث فقط.. لكن الرغبة فى ركوب التريند وتحقيق أقصى تفاعل ممكن تجعل الكثير من مواقعنا العامة تركز على الحوادث بأكبر مما تركز على مجالات أخرى لا تقل أهمية مثل الصحة والصحافة الخدمية والفنون الراقية وقصص الكفاح الإيجابية وأخبار الثقافة والتاريخ وملفات الآثار وأخبار التنمية وكافة روافد القوة الناعمة المصرية والتى يشيع النشر عنها نوعًا من الإيجابية والاعتزاز بالذات القومية ويبث شعور الأمل فى غد أفضل.. بدلًا من الطاقة السلبية التى يبثها التوسع فى نشر أخبار الحوادث مصحوبة بأكبر كم من الانتهاكات القانونية وعدم الدقة فى النشر أو عدم صحة بعض الأخبار من الأساس.. لقد تناول الزملاء فى النقاشات عددًا من الزوايا المهمة وتم الاتفاق على أن يصدر المجلس الأعلى للإعلام تقريرًا عن التجاوزات التى ترتكبها المواقع والصحف فى هذا الخصوص، وهى سنة حسنة وإحياء لتقرير قديم كان يصدره المجلس الأعلى للإعلام فى عصر ما قبل المواقع الإلكترونية وصفحات الفيسبوك التى تبث اعترافات المتهمين وأقوال الشهود ووقائع الجرائم على الهواء مباشرة، وكأنها تحولت إلى نيابة عامة ومحكمة جنايات وسلطة تحقيق فى نفس الوقت.. ولا شك أن من بين الاقتراحات الوجيهة تدريب الزملاء العاملين فى المواقع على مواثيق احترام الخصوصية وحقوق المتهمين أو بمعنى أصح إجبار المواقع والصحف على تدريب شباب المحررين قبل أن يبدأوا فترة تدريبهم أو عملهم فى هذه الصحف.. وكان من الاقتراحات أيضًا أن تكون هناك سياسة عقابية متدرجة من المجلس الأعلى للإعلام تبدأ بلفت نظر الصحيفة أو الموقع المخالف ثم توجيه عقوبة الإنذار ثم فرض غرامة مالية تتدرج فى قوتها مع تكرار المخالفات أو تعددها.. إننى أظن أن النقد الذاتى داخل أى مهنة هو الطريق الوحيد لحمايتها وتقويمها وسد الطريق أمام من يريد الهجوم عليها أو النيل منها.. كما أنه الطريق الوحيد لحماية التقاليد المهنية والحفاظ عليها من الاندثار مع تعاقب الأجيال ورحيل الأساتذة وصعود وسائط تعبير جديدة تحمل معها عيوبها كما تحمل معها مميزاتها.. وقديمًا قال الحكيم العربى.. رحم الله رجلًا أهدى إلىّ عيوبى.. وأظنه كان صادقًا فيما قال.