رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لكى يشعر المشجع البسيط بالرضا

كرة القدم أكبر من لعبة، وأقل من معركة، هى المساحة الوحيدة على كوكب الأرض التى يتحقق فيها العدل، يعاقب المخطئ، وعلى الملأ، هى تاريخ من الفرح والحزن، المباراة نص مرئى مزدحم بالفنون، فيها شعر وموسيقى ودراما، نجحت فى خلق لغة مشتركة بين البشر، وحاصرت المشاعر البدائية بعد أن نقلت الصراع على أرض الملعب.

فى بداية هوس التشجيع أواخر خمسينيات القرن الماضى، كتب العظيم توفيق الحكيم: «انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم»، وفى الوقت نفسه تقريبًا قال الكاتب الأرجنتينى الكبير خورخى لويس بورخيس: «الغباء ينتشر فى العالم والدليل تصارع أحد عشر لاعبًا مع أحد عشر لاعبًا على الركض وراء كرة، فهذا الأمر لا يوجد فيه أى جمال»، الاثنان لو لحقا كأس العالم التى بدأت الأحد الماضى فى قطر، وجلسا مع أربعة مليارات إنسان لمتابعة البطولة، ربما تغيرت وجهة نظرهما، هذه البطولة جاءت فى وقت غريب على البشرية، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بالبطل، البشرية خارجة للتو من وباء، وتدفع ثمن حروب ليست على أراضيها، ومهددة بسبب التغير المناخى، ولا يشعر أحد على أرض الكوكب بالطمأنينة، فى وقت يزداد الأغنياء غنى، والفقراء فقرًا، وكل الأطراف تشاهد كرة القدم، وتتحدث إلى بعضها بعيدًا عن السياسة والاقتصاد. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كان معدل التهديف فى المباراة عاليًا، تراجع طوال فترة الحرب الباردة بسبب الخوف من الخسارة، أكثر من السعى إلى الفوز، ظهرت مقولات كثيرة بعد ذلك، لم تصمد كثيرًا، البرازيليون الفنانون كسبوا بمقولة «أفضل طريقة للدفاع هى الهجوم»، وهى المقولة التى نسفها الإيطاليون بكرتهم الدفاعية التى انتصروا بها على الجميع، لا توجد فى كرة القدم مسلمات، هى تبتكر قوانينها وخططها حسب كل مرحلة، فى الماضى كانت كرة القدم تغازل الجانب الطفولى لدى اللاعب وجمهوره، كان المدرب يحرض لاعبيه على الارتجال والابتكار فى اللعب، تم استبدال هذا المدرب بالمدير الفنى المنضبط الذى يستبعد الذين لا ينفذون الأوامر، المدير الفنى الذى ابتكرت الرأسمالية العالمية منصبه، وتحوّل الملعب إلى «استديو» يقدم «شو»، من أجل مزيد من الإعلانات وبيع حق البث بسعر أعلى، ولا يهم حرمان الفقراء من متابعة لعبتهم التاريخية التى تخصهم دون غيرهم، ومع هذا تقاوم فطرة اللاعبين لكى يستمتع المشجع الذى يبحث عن شىء يخصه هو، لم تعد كرة القدم لعبة ولكنها أصبحت أسلوب حياة، على حد تعبير «جورج ويا» الأسطورة الذى سبق الجميع فى إفريقيا ونال جائزة أفضل لاعب فى العالم، تشعر بأن الفريق الذى تشجعه يلعب نيابة عنك، تريد أن تشعر بانتصار ما، يجعلك تركن هزائمك الخاصة والعامة طوال تسعين دقيقة، وربما تدافع عن قناعاتك وسط أصدقائك على المقهى لتشعر بأنك وسط العالم ولست وحيدًا، يعتمد العرض الذى شاهدته على خمسة عناصر، اللاعبين والجمهور والحكم والمدرب والقانون، وإلى جوارهم ستة أخرى، هى الملعب والنشيد الوطنى والمعلق والاحتياطيون ومساعدا الحكم والفار، أنت فى بيتك أو فى المدرجات تعرف كل التفاصيل، وربما أكثر من نجوم التحليل من اللاعبين المتقاعدين الذين احتكروا الحديث عن اللعبة، وتغدق عليهم الرأسمالية والسلطات لاختزال الخطاب النقدى فى أشخاص لا تعنيهم المشاعر البسيطة للجمهور المطالب بدفع رسوم مشاهدة اللعبة التى صنع مجدها، لن يذكر أحد فى المستقبل الكلام الذى صاحب اختيار البلد المضيف والاتهامات الموجهة لفيفا، سيتذكر الناس البطل والأهداف واللاعبين الموهوبين، بعد كل فوز سترفرف الأعلام وأناشيد البلد الفائز، وسينام أهل البلد المهزوم حزانى، مصر كانت تستحق أن تكون موجودة فى هذه البطولة، ليس لأنها ظُلمت وكان ينبغى إعادة مباراة السنغال، ولكن لأننا نملك جيلًا يستحق أن ينافس وقادرًا على ذلك، لن نشجع أحدًا أمام العرب أو الأفارقة، ونتمنى أن يذهبوا إلى أبعد ما يمكن فى البطولة، القوى العظمى فى اللعبة لا تزال عظمى، أتمنى شخصيًا أن تكسب البرازيل أو الأرجنتين، لأن الفرق الأوروبية لا تستحق المجد الذى حققته فى العقود الأخيرة، كرة أمريكا اللاتينية منسوب الشعر فيها أعلى، والجانب الطفولى فى الأداء له الغلبة، أعتقد أننا سنشاهد أهدافًا غزيرة هذه البطولة.. لكى يشعر المشجع البسيط بالرضا.