رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد حسنين هيكل يكتب: قصتي مع الصحافة

محمد حسنين هيكل
محمد حسنين هيكل

كان الأستاذ محمد حسنين هيكل «١٩٢٣- ٢٠١٦» مالئ الدنيا وشاغل الناس كما يقول المتنبى طوال حياته، وفى جميع مراحله، وبسبب دوره التأسيسى فى بناء دولة يوليو، وصياغة أدبياتها المختلفة، وخطابها الإعلامى والثقافى، كان الأستاذ هيكل محل هجوم كبير ممن سخطوا على الثورة، وناصبوها العداء، بالحق حينًا، وبالباطل أحيانًا.. وإذا كان الخلاف على «هيكل السياسى» واردًا، وإذا كانت مشاعر الغيرة من «هيكل الإنسان» مقدرة، مفهومة فى إطار الطبيعة البشرية، فإن ما لا يمكن الخلاف حوله هو «هيكل الصحفى» إذ نحن إزاء قصة نجاح عصامى لواحد من نوابغ المصريين، استغل كل فرصة سُنحت له للتعلم، وارتقى بموهبته من واحد من آحاد الناس ليصبح صحفيًا عالميًا بالمعنى المهنى، وصديقًا لواحد من الذين غيروا تاريخ العالم هو جمال عبدالناصر، وتلازمه طوال حياته الحكمة التى لا توهب سوى للقليلين، فيعرف أين يضع قدمه، وكيف يضعها؟ ومتى يقدم ومتى ينسحب؟ وكيف يكون واقعيًا يطلب ما يطلبه الناس من نجاح وسعة، وكيف يكون متعففًا فلا يقع فيما وقع فيه أساتذته «التابعى» و«مصطفى أمين» فأساء إلى صورتهم أبد الدهر، رغم كل محاولات الدفاع، والتماس الأعذار، وأظن أن الفارق بين هيكل وأساتذته هو الثقافة، فقد كان هيكل مثقفًا قبل أن يكون صحفيًا، وصاحب رؤية قبل أن يكون صاحب حرفة، وصاحب موقف قبل أن يكون صاحب قلم، وقد أخذ نفسه بالشدة اللازمة، وكأنه تعلم من نهم أساتذته للحياة ورأى إلى ماذا قادهم.. إن ما يبقى من الأستاذ هيكل إلى جانب مؤلفاته المهمة، هو رحلة نجاحه، وتعلمه الذاتى، وإقباله على تعلم الإنجليزية والكتابة بها رغم أن الظروف لم تسمح سوى أن يحمل مؤهلًا متوسطًا، وانفتاحه على الصحافة الغربية منذ نعومة أظافره واقتناصه هذه الفرصة، وإتقانه مهنته للدرجة التى تدفع عبدالناصر لأن يرد على الصحفيين المعترضين على هيكل قائلًا.. هيكل هو الذى يمدنى بالأخبار الجديدة وليس العكس، كان ذلك فى مؤتمر باندونج ١٩٥٥ وفسر الصحفيون الانفرادات التى يكتبها هيكل بأن صديقه جمال عبدالناصر يمده بها، لكن ناصر رد عليهم بأن هيكل هو الذى يمده بأخبار الوفود المشاركة وليس العكس، أظهر الأستاذ هيكل عشرات «الأمارات» على تميزه فى كل مراحل حياته، فعندما تولى رئاسة تحرير الأهرام حوّلها من جريدة يطاردها الفشل لواحدة من أهم عشر صحف على مستوى العالم، ولمؤسسة ناجحة اقتصاديًا، ولمدرسة مهنية خرّجت مئات الصحفيين المميزين، ولساحة للرأى تضم كبار المثقفين المصريين، وعندما غادر الأهرام تحولت كتبه إلى ظاهرة مصرية، وعربية، وعالمية، وعندما سيطرت الفضائيات تحولت حلقاته التليفزيونية إلى وثائق مهمة لا يمكن تجاهلها، إنه ببساطة مصرى نابه، عرف قيمة العلم، ولم يتوقف عن العمل من المهد إلى اللحد، فنال ما يستحق من مكانة وسقطت أطنان الورق التى حاولت تشويهه فى الأرض تحت أقدامه، ولعله وقف عليها فطالت قامته كما كانت نصيحة أستاذه وصديقه السابق مصطفى أمين، فى السطور المقبلة ننشر مقالًا نادرًا للأستاذ هيكل بعنوان «علامات على طريق طويل» كتبه بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على احترافه الصحافة، وروى فيه جزءًا من رحلته، وتعرض فيه لبعض أمور السياسة وقتها «المقال مكتوب عام ١٩٧٢» رأينا أن نتركها كما هى حفاظًا على قيمة المقال الذى أهداه لنا قارئ الدستور الصيدلى الصديق أحمد سامي دوالى فتحية له وللأستاذ هيكل ولكل محب للصحافة معًا. 

                                                                   وائل لطفي

لا بد أن أعتذر منذ السطر الأول فى هذا الحديث عن ظلال مشاعر شخصية سوف تعكس نفسها عليه. ذلك أننى فى يوم له بالنسبة لى معنى خاص، فمعه أكون قد أكملت ثلاثين سنة فى خدمة المهنة العظيمة التى أسميتها ذات مرة مهنة «البحث عن المتاعب».

وما زلت حتى الآن أذكر شحنة الانفعالات التى دخلت بها إلى مبنى جريدة «الإجيبشيان جازيت» يوم ٨ فبراير ١٩٤٢- أسأل عن مكتب «سكوت واطسون» سكرتير تحريرها فى ذلك الوقت. 

كان سكوت واطسون يُحاضرنا فى مادة جمع الأخبار، وبعد إحدى محاضراته عرض على من يريد من طلبته تدريبًا عمليًا فى الصحافة أن يقابله فى «الإجيبشيان جازيت»، وكنت بين الذين ذهبوا إليه، وكان من بين دوافعى إلى الذهاب- إضافة إلى هوى المهنة وسحرها- إعجاب شديد بشخصية سكوت واطسون وأحاديثه التى ألهبت خيالنا عن الحرب الأهلية فى إسبانيا وكان قد غطى وقائعها لجريدة «المانشستر جارديان» فيما أتذكر قبل قدومه إلى مصر والتحاقه «بـالإجيبشيان جازيت». 

كانت ذكريات الحرب الأهلية فى إسبانيا أريج الشوق فى أحلام كثيرين من شباب تلك الأيام، ولم تكن الحرب العالمية التى راحت تطحن الدنيا كلها وتضرب القارات ببعضها قد استطاعت بعد أن تمحو ذلك الحنين العارم إلى تلك الخيالات شبه المقدسة التى انبعثت ثم سحقت فى إسبانيا، قبل الحرب العالمية مباشرة. 

كانت تلك الحرب فى أحلامنا صراعًا قاطعًا بين الخير والشر، وبين الديمقراطية والفاشستية، وبين الجماهير والقوى الرجعية. 

وحين تهاوت الجمهورية فى إسبانيا، مثخنة بالجراح مضرجة بالدم، فقد كان ذلك أمام عيوننا نذير شر مستطير ما لبث أن جاء فعلًا حين بدأت النازية تدوس بأقدامها الغليظة فوق أوروبا بخطى بربرية على دقات طبول وثنية! 

كان سكوت واطسون قد عاش التجربة، وكانت نصف محاضراته عن حكاياتها، وذهبت لأعمل معه مشدودًا بالنصفين معًا: الأخبار وهى العصب فى مهنة الصحافة، والحرب الأهلية فى إسبانيا وهى الحلم المضىء الذى اغتالته قوى الظلام فى إسبانيا. 

وكانت تلك هى البداية لطريق طويل طويل مشيت عليه ثلاثين عامًا إلى اليوم، من سن الثامنة عشرة إلى سن الثامنة والأربعين. 

وربما بأريج الشوق القديم وجدت نفسى مشدودًا إلى الجرى كصحفى وراء الصراعات العنيفة حيثما تفجر الصراع.. 

وجدت نفسى فى العالمين أتابع معركة الصحراء بعين مصرية وكان ذلك اقتراح سكوت واطسون نفسه. 

ثم انتقلت من «الإجيبشيان جازيت» إلى «آخر ساعة» بخطاب من رئيس تحريرها «هارولد إيرل» إلى الأستاذ «محمد التابعى»، وكان هارولد إيرل- بفرط حسن ظن لديه- يتصور أن مستقبلى لا بد أن يتحدد فى الصحافة العربية، وعندما انتقلت «آخر ساعة» إلى ملكية دار أخبار اليوم وجدتنى أنا الآخر هناك. 

كان أريج الشوق القديم ما زال يبعث بندائه الغامض المثير ويشدنى إلى الصراعات حيث تكون، هكذا وجدت نفسى مراسلًا متجولًا فى الشرق الأوسط مع تركيز خاص على فلسطين التى بدأت النار تندلع على أرضها المقدسة غداة انطفاء نار الحرب العالمية الكبرى.. 

ثم جذبتنى الحرب الأهلية فى اليونان وتفاعلات البلقان المثيرة فى ذلك الوقت، ثم عدت إلى الشرق الأوسط مرة أخرى وراء الانقلابات والاغتيالات.. 

ثم شدتنى إيران فى بداية أزمة مصدق، ثم تركت الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لحرب كوريا ولحرب الهند الصينية الأولى.. 

... إلى أن كان يوم تلقيت فيه خطابًا من كامل الشناوى، وكانت خطابات ذلك الصديق والشاعر المرهف خيطًا من الحرير يصل بينى وبين الوطن دائمًا مهما كان البُعد، وكان «كامل الشناوى» يقول لى فى خطابه: 

«ماذا تفعل أنت هناك...؟ تتابع أحداث أوطان أخرى ووطنك هنا على شفا أحداث أكبر!». 

وعدت مع الأيام التى أُلغيت فيها المعاهدة الأبدية بين مصر وبريطانيا، تصورت أن بداية الاحتكاك سوف تكون مع القوة المصرية فى السودان فذهبت إلى الخرطوم.. 

ثم تركت العاصمة المثلثة إلى منطقة قناة السويس متصورًا أن الصراع الجاد سوف يبدأ ضد القوات البريطانية هناك.. 

ثم تركت المنطقة إلى القاهرة قبل أيام من حريقها المشهور فشهدت ما جرى فيه، وبقيت فى القاهرة مع أنقاضها ومع أنقاض النظام الملكى الذى كان يتساقط يومًا بعد يوم.. 

وكنت وسط الحياة السياسية فوق الأرض وتحتها حتى التقيت بجمال عبدالناصر عصر يوم ١٨ يوليو ١٩٥٢، ولم نفترق ولم ينقطع الحوار بيننا حتى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ حين تلقى هو الدعوة للرحيل. 

وهذا الأسبوع ومع ذكريات البداية على الطريق الطويل الطويل، فقد ألح علىّ كثيرًا سؤال: 

- أما يكفى لهذا الحد؟.. لقد طفت بالدنيا كلها بحثًا عن المتاعب... والتقيت بقادة العصر من كل الأجناس وفى كل البلدان... وعاصرت التجربة الكبرى فى مصر ومن بؤرة العاصفة، وكتبت عن كل المشاكل والصراعات تحقيقات فى إثر تحقيقات... بل إننى فى هذا الحديث الأسبوعى نشرت قرابة الألف مقال بانتظام. 

ثم ماذا؟ 

ألا يجىء وقت على المحارب يغمد فيه سيفه، وعلى الكاتب يضع فيه قلمه؟ 

ألا يصدأ السيف؟.. وألا يفرغ المداد بعد ثلاثين سنة؟ 

ألم تجئ أجيال؟.. ألم تتغير أفكار؟... ومهما قلنا بأن الشباب ليس بعدد السنين وإنما باستيعاب روح العصر... أفلا يمكن أن تكون هذه ذريعة للتلكؤ، وادعاء ليس وراءه غير التمسك بالبقاء؟ 

وأعترف أن هذه لم تكن أول مرة يخطر على بالى فيها أن أخلى نفسى من العمل المنظم، وأخلو لنفسى أكتب عما رأيت وسمعت وتابعت على الطريق الطويل الطويل، حتى وإن كان ما أكتبه ثرثرة عما مضى من الوقائع والأيام. 

... لقد خطر ذلك ببالى ذات مرة سنة ١٩٦٧ وبعد معارك الأيام الست وبرغم أننى كتبت محذرًا- وبصراحة- من مهاوى الخطر قبل أن تبدأ المعارك مما دعا البعض إلى اتهامى بالتشاؤم والانهزامية- فإننى كنت مثل كثيرين غيرى بعد المعركة ممن روعتهم صدمة النكسة فى حجمها. 

وحين جاءت الوقفة الرائعة للجماهير العربية بالصمود، وحين جاءت الوقفة البطولية لجمال عبدالناصر وحيدًا وسط الأنقاض يحاول إعادة البناء- فلقد تحاملت على نفسى وقلت: 

- ليكن!.. الذهاب الآن فرار.. وكنا نكتب بالأمل، فلنكتب الآن بالألم وحتى تلتئم الجراح! 

وعاد إلى نفسى الخاطر مرة ثانية ومشروع الأهرام الجديد يوشك على التمام سنة ١٩٦٨، وقلت لعبدالناصر مرة: 

- «سوف أصنع مفتاحًا من الذهب لمشروع الأهرام وسوف أسلمه لك عندما تزوره وسوف أقول لك إننى به قدمت إسهامى فى خدمة مهنتى كما أننى به أثبت إمكان نجاح المشروع العام فى مصر وعلى مستوى تحدى العصر». 

وضحك منى عبدالناصر وقتها وقال لى: 

- «ما تفعله الآن هو قدرك... ولا يستطيع أحد أن يهرب من قدره». 

وبعد رحيل عبدالناصر عاد إلى نفسى الخاطر مرة ثالثة وصارحت به الرئيس أنور السادات. 

قدمت إليه استقالتى من الوزارة مشفوعًا برغبتى فى الابتعاد عن العمل العام بما فى ذلك عملى فى الأهرام. وكان الرجل مع كل ما حمل من أعباء فى تلك الأيام رقيقًا معى، رفيقًا بى، وقضى ثلاث ساعات يحدثنى فيما كان وفيما سوف يكون. 

ومضيت فى حمل القلم، بل وزدت تمسكًا بحمله بعد أن ظهرت محاولات مراكز القوى فى ذلك الوقت تحاول أن تنقض على تراث عبدالناصر التاريخى وتحوله إلى إرث سلطة. 

وكان أنور السادات فى ذلك الوقت لا يحمل مسئولية الاستمرار بعد عبدالناصر فقط، ولكنه كان يحمل مسئولية استمرار بقاء مصر ذاتها بكل القيم الحضارية الماثلة فى تاريخها العظيم على أرض شعبها وللأمة من حولها. 

وأذكر أن الحصار بدأ يضيق من حولى فى شهر نوفمبر ١٩٧٠، بعد مقال نشرته بعنوان «عبدالناصر ليس أسطورة»، وأجرت اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى فى ذلك الوقت شبه محاكمة لى، وقال لى الرئيس السادات: 

«إننى سوف أدعوك إلى اجتماع اللجنة لتشرح وجهة نظرك». 

وكان ذلك تقليدًا بدأه السادات عن رغبة فى مواجهة الأمور بصراحة. 

وقلت لأعضاء اللجنة- ويشهد الرئيس السادات والدكتور فوزى: 

إننى قبل أن أناقش ما تريدون مناقشته... أريد أن أتحدث فى ثلاث نقط: 

- أولاها أننى لست طالب عمل... لأننى أستطيع أن أعيش بقلمى فى أى مكان.

- ثانيتها أننى لست طالب منصب ولقد اعتذرت عن منصب الوزير مع عبدالناصر سنة ١٩٥٦ وسنة ١٩٥٨ وسنة ١٩٦١ وسنة ١٩٦٧ ثم فوجئت به رغمًا عنى فى سنة ١٩٧٠ ثم ابتعدت عنه على الفور غداة رحيل من كلفنى به؛ لأن اعتقادى أن مكان الصحفى هو الجانب الآخر المواجه للسلطة وليس بالضرورة الجانب الآخر المعادى للسلطة. 

- وثالثتها أننى باقٍ فى عملى رغم علمى بمخاطره، وبالظروف المقبلة فى مصر وهى ظروف ليس فيها غنائم وإنما كلها ضرائب وأجدنى متمسكًا بدفع نصيبى منها. 

وبقيت وازددت تمسكًا بالبقاء- برغم الحملات الضارية- وكان ذلك عن إحساس بأن هناك لعبًا بأقدار مصر ومصائرها وبأن موجة من الطغيان والجهل تتحفز للانقضاض على مهد العلم والنور. 

وارتد الظلام أمام حركة التصحيح التى قادها السادات يوم ١٤ مايو ١٩٧١. 

وهذا الأسبوع- وبعد ثلاثين سنة على الطريق الطويل الطويل- عدت أسأل نفسى، وغيرى: 

- «ألا يكفى؟» 

وكان الدكتور محمود فوزى واحدًا من الذين سألتهم، وكنا جالسين فى بيتى لحديث حميم أخذنا خمس ساعات ونحن لا ندرى.. 

وقال لى الدكتور محمود فوزى: 

- إننى أسأل نفسى ذات السؤال أحيانًا وأخرج منه: «بأننى رجل عجوز وقع فى غرام صبية خالدة الشباب اسمها مصر». 

كذلك أنت. 

دعنا نقل إن الحب أقوى.. وإن الحياة أقوى. 

وقلت للدكتور فوزى: 

- «لعلك على حق... ثم لعلى أضيف فيما يتعلق بى مسألة أخرى.. لقد كتبت سنوات طويلة فى ظلال علم عربى يخفق طويلًا منشورًا يضرب فى الرياح والعواصف.. ولا أتصور أن أسكت وهذا العلم منكس بالحزن مع استمرار بقاء الاحتلال». 

لم يكن خاطر التساؤل هو الخاطر الوحيد فى الفكر بعد هذه المرحلة- ثلاثين سنة- من الطريق الطويل.. 

ولم تكن الخواطر ذاتية فقط فى هذا الأسبوع من البحث فى أعماق النفس، ومن التفتيش على الحقيقة قريبًا أو بعيدًا. 

فى مثل هذه اللحظات- لحظات البحث فى أعماق النفس والتفتيش على الحقيقة قريبًا وبعيدًا- فإن خواطر الناس ترفع من وجدانهم كل حواجز المكان والزمان وتمنحهم ألفة دافئة مع البشر ومع الأشياء وتعطيهم شعورًا غريبًا يذوب فيه الماضى والحاضر والمستقبل معًا، وتمتزج فيه التجارب بالواقع، والآمال بالرؤى! 

ولقد تكلمت كثيرًا عن مشاعر ذاتية، وتوقفت ربما أطول مما يجب- عند الماضى. 

ولم يكن ذلك وحده فى خواطرى... بل لعلى كنت مصممًا قبل أن أبدأ كتابة هذا الحديث على أن أتجنب كل ما هو ذاتى، وكل ما هو متصل بما مضى. 

لكنى- على الرغم منى- شردت ولعله الحنين والشجن. 

ومع ذلك فالفرصة لم تضع بعد لخواطر سريعة ليست ذاتية، وليست ذاهبة، وإنما هى عامة.. ومقبلة. 

خواطر أشعر بإلحاحها هى الأخرى، فى لحظة التقاط أنفاس على طريق طويل طويل.. قطعت منه ثلاثين سنة!! 

وكنت أريد أن أمسك أحد هذه الخواطر وأكتب عنه بالتفصيل لكن المشاعر غلبت، وإن لم تكن الفرصة- كما قلت- لم تضع بعد. 

... هكذا فلعلى أُجمل ما ورد على خواطرى كما يلى: 

١- إننى برغم أثقال الأزمة أؤمن بأن مصر لديها القدرة والطاقة على قيادة أمتها العربية فى صراعها الذى تخوض الآن غماره ضد عدوها العنصرى الذى تؤيده قوى الاستعمار العالمى. 

ولقد تابعت العدو المباشر عن قرب، وربما كنت واحدًا من قليلين أتاحت لهم الظروف قبل قرار التقسيم سنة ١٩٤٧ أن يطوفوا شبرا شبرًا بما أصبح الآن إسرائيل، كما أننى ألاحق كل ما جرى ويجرى على الأرض التى يحتلها منذ سنة ١٩٤٨. 

ولست أجد داعيًا إلى التهويل من قدرة العدو كما أنى فى نفس الوقت لا أجد داعيًا للتهوين من هذه القدرة نحن نستطيع هزيمة هذا العدو. 

ولدينا الوسائل المادية والحضارية لفرض انتصارنا. 

وربما كان الفارق الوحيد بيننا وبينه أنه يركز القليل لديه ونحن نبعثر الكثير لدينا. 

٢- إننى واحد من عشرات الملايين الذين أيدوا ويؤيدون ثورة ٢٣ يوليو وكنا ولا نزال نعتقد أنها بمبادئها قدمت ردًا صحيحًا على المشكلة العربية. 

وكان موقفنا ولا يزال أننا نحمى الثورة من أعدائها ومن أخطائها. 

وكان للثورة- كما لكل ثورة- كثير من الأعداء. 

وكان للثورة- كما لكل ثورة- كثير من الأخطاء. 

ولكن تحولات التاريخ الكبرى تقاس بالمحصلة النهائية بين الإيجابى والسلبى مما أنجزته، بل إن تحولات التاريخ الكبرى تقاس بالقوى التى تطلقها من عقالها ومن أسارها بصرف النظر عن أى إنجاز. 

وأهمية ثورة ٢٣ يوليو ترجع إلى أنها نبهت الجماهير العربية إلى واقعها ومن ثم حركتها إلى ضرورة تغييره.

ولقد كان من أبرز ما حققته ثورة ٢٣ يوليو- خصوصًا باتجاهها التقدمى بعد حرب السويس سنة ١٩٥٦- أنها كشفت استحالة الطريق الرأسمالى للنمو الاجتماعى الاقتصادى، ومن ثم فإنها اختارت دوليًا- وبإرادتها الحرة- موقف العداء مع الاستعمار، وكانت لذلك تكاليفه ولكنه الطريق الصحيح تاريخيًا- بصرف النظر عن كل التكاليف. 

٣- إن قيادة أنور السادات- على طريق جمال عبدالناصر- هى الممثل الشرعى لحركة الثورة الوطنية والقومية فى المرحلة الراهنة. 

وظنى أن القيادة وتأييدها إلى آخر المدى هو العاصم الحقيقى فى هذه الظروف من جاهلية اليمين المتخلف وجهل اليسار المغامر. 

وتزداد أهمية هذه القيادة من واقع أن الصراع الحالى الذى تخوضه الأمة العربية يغطى كل الظلال ويسبق كل الظلال؛ لأن الوطنية المصرية والقومية العربية- وبغير تعارض أو تناقض بين الاثنين- هما رأس الحربة فى التقدم. 

وحين أقول بالوطنية المصرية وبالقومية العربية فإن التعبير عنهما اجتماعيًا ينبع من مصالح وآمال أوسع الجماهير. 

٤- إننى أتذكر حوارًا مع المفكر الفرنسى الكبير أندريه مالرو كان فيه يقارن بين عبدالناصر وديجول، وكان من بين ما قاله مالرو: 

كلاهما عرض عليه الخيار فى عصره: هل أنت مع أمريكا أو أنت مع الاتحاد السوفيتى؟ 

وكلاهما رفض الخيار على هذا النحو. 

ديجول قال: إننى مع فرنسا. 

وعبدالناصر قال: «إننى مع مصر». 

وظنى أن الجماهير العربية كلها كانت مع نفس الخيار: إنها ليست مع أمريكا ولا مع الاتحاد السوفيتى، ولا مع غيرهما. 

لكنها مع الأمة العربية. 

وهى من هذا الموقع تحدد الأصدقاء وتحدد الأعداء. 

هى تقف مع الذين يقفون معها، وهى تقف ضد الذين يقفون ضدها. 

وغير ذلك خطأ.. بل غير ذلك جريمة. 

٥- إن صميم الحيرة التى تقع فيها الأمة العربية الآن هو التناقض بين اعتبارين: 

أولهما: كراهية العدو والتصميم على مقاومته دائمًا، وذلك منطقى. 

وثانيهما: اهتزاز الثقة بالنفس أحيانًا- وذلك منطقى أيضًا- نتيجة لتجارب مرهقة حكمها الانفعال ولم يحكمها الفعل. 

ويبقى الآن أن أهم واجبات القيادة المسئولة عن النضال ومهامها هى استعادة الثقة العربية بالنفس على أساس الحساب وليس على أساس المغامرة.. بالفعل وليس بالانفعال.. بالحركة وليس بالكلمات. 

٦- إن حركة الشعب المصرى- وفى وسطها حركة الشباب الأخيرة- دليل حيوية دافقة فى وقت أراد فيه العدو أن يتصور الركود والعفن فى كل مكان على الأرض العربية. 

ولست أريد أن أتعرض لأى خطأ قد تظهره التحقيقات فى حركة الشباب الأخيرة، ولكنى أريد أن أمس نقطة واحدة فى هذه الحركة. 

قبل هذه الحركة كانت هناك بعض مظاهر لنسيان الحقيقة ولا أقول الهرب منها. 

وكان ذلك باديًا على سبيل المثال فى النهم الاستهلاكى البادى فى تصرفات البعض، وكان ذلك باديًا فى مناقشة شغلت مصر بأكملها حول قفزة فى ملعب كرة قدم. 

وفجأة تجىء حركة الشباب فتزيح هذا كله وتضع القضية الوطنية والقومية فى مكانها الصحيح، بل تدفعها إلى كل بيت. 

كنا نريد تعبئة الجبهة الداخلية. 

ولم يتحقق فى تعبئة الجبهة الداخلية شىء أكثر مما تحقق بحركة الشباب، والخطوة الأولى فى التعبئة هى الاهتمام. 

وكان ذاك ما فعلته حركة الشباب تمامًا بالنسبة للمعركة. 

ويلفت النظر فى هذا الصدد بيان وجهه اتحاد الطلبة فى إسرائيل إلى اتحاد الطلبة فى مصر قال لهم فيه: 

«إننا فى دهشة من حركتكم... إن حركات الشباب فى العالم تدعو إلى السلام.. وأنتم أول حركة شباب تدعو إلى الحرب». 

ولم تكن الحرب ما دعا إليه شباب مصر... ولكن الدعوة كانت للتحرير... وللعمل له وتكريس الجهد فى سبيله. 

٧- لقد ثبت أن التعبئة الداخلية الفعالة هى المشاركة الشعبية النشيطة. 

وعندما يكون هناك اتساق بين السلطة والجماهير.. أى عندما تكون السلطة تعبيرًا عن الجماهير وتكون الجماهير واثقة فى السلطة، فإن الجبهة الداخلية تصبح أقوى مما تكون وأكثر استعدادًا. 

والتعبير والثقة كلاهما ينشأ عن الحوار. 

والحوار بدوره هو الذى يمهد الأرض للمشاركة وهى جوهر الديمقراطية. 

وتستطيع أى سلطة أن تقمع وأن تضرب، لكنها حين تفعل ذلك تكون قد عزلت نفسها عن قاعدتها... وتصبح معلقة فى الهواء.. ذروة ليس تحتها هرم... قمة ليس تحتها جبل. 

ولقد أثبت أنور السادات ذلك عمليًا فى معركته ضد مراكز القوى. 

كان أمامها أعزل من أى سلاح... ليس فى يده- كما قلت مرة- غير عصا من فرع شجرة جميز يتوكأ عليها أحيانًا. 

وكانوا أمامه ومعهم كل أدوات السلطة فى مصر. 

وكنسهم من فوق الأرض كنسًا لأن الجماهير كانت معه. 

٨- إن التعبئة المطلوبة للجبهة الداخلية ليس هى التسخين السريع للمشاعر، لأن التسخين السريع للمشاعر لا يمكن أن يعقبه إلا التبريد الأسرع لها إذا لم تكن هناك العوامل الموضوعية المهيأة. 

إن الانتقال خطفًا من النار إلى الصقيع ومن الصقيع إلى النار يحدث صدمة، والصدمة تؤدى إلى الاهتزاز ولا تؤدى إلى التماسك. 

إن التعبئة المطلوبة تتحقق حين تكون الجماهير كلها فى الصورة، سواء عن طريق الوقائع الصحيحة أو التحليل الدقيق، وذلك لا يتطلب إذاعة أسرار تقتضى ضرورات النضال إبقاءها بعيدًا عن التناول غير المسئول بما يفيد العدو ولا يفيد غيره. 

إن التعبئة المطلوبة تحدث عندما يكون هناك مجرى عام واضح ومرسوم يسير فيه تيار العمل الوطنى والقومى، كذلك تحدث التعبئة المطلوبة عندما يكون هناك تنظيم شعبى فى مهمته أن يكون أمام الجماهير على هذا المجرى فى كل وقت وفى كل ظرف. 

٩- إننا يجب أن نعرف من حقائق العالم والعصر ما يجعلنا ندرك بشكل قاطع أن هناك وسائل متاحة أمام كل الأطراف تمكنهم من الحكم والقياس. 

ومعنى ذلك أننا لا نستطيع أن نؤثر إلا بما هو مؤثر. 

أى أننا لا نستطيع أن نقنع... إلا بما هو موجود فعلًا. 

يترتب على ذلك شىء آخر يتصل به. 

وهو أن ما نقوله فى الداخل يصل إلى الخارج، وما نقوله فى الخارج يصل إلى الداخل. 

ومعنى ذلك أننا حين نتجاوز لا نصنع فجوة تصديق فى الخارج فحسب، ولكننا نصنع فجوة تصديق فى الداخل أيضًا. 

١٠- من حقائق العصر أيضًا أننا نعيش فى عالم واحد تحكمه قوانين واحدة تصدر عن نظام بالغ الدقة والتعقيد. 

ونحن نريد أن نؤثر فى العالم بقضيتنا؛ ولهذا فإننا لا يجب أن ننسى للحظة واحدة أن قضايا العالم الأخرى تؤثر بدورها على قضيتنا. 

ثم لا أعرف ما الذى انتهيت إليه من هذا الحديث الطويل. 

لقد وقفت- ربما بأكثر مما يجب- عند خواطر ذاتية ليست لها فائدة. 

ثم عبرت- ربما أسرع مما يجب- على خواطر عادية لعل التفاصيل فيها كانت لها فائدة. 

عذرى... أن هذا الحديث كله كان ثرثرة مناسبات... 

ثلاثون سنة على طريق طويل... طويل!

المصدر: نشر فى صحيفة الأهرام

١١ فبراير ١٩٧٢ بمناسبة مرور ٣٠ عامًا

على عمل الأستاذ هيكل بالصحافة