رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمير ألمانى يزور الشرق

في أعقاب الثورة التي أحدثها محمد على الذي تولى الحكم عقب خروج الحملة الفرنسية من مصر، بدأ اهتمام الأوروبيين بمصر باعتبارها دولة جديدة تظهر على الأفق، وبدأت تتوافد على مصر وفود السياح والمستكشفين والرواد بقصد السياحة والاستكشاف.
ففي عهد الخديو إسماعيل جاء إلى مصر صاحب السمو الإمبراطوري الأرشيدوق رودلف، من أمراء مملكة النمسا الذي ينتمي إلى آل هبسبرج، زائرا، كانت النمسا وقتها تحت حكم الإمبراطور فرانسوا جوزيف، وقد سجل الأمير رحلته في كتاب بعنوان "رحلة الأمير رودلف إلى الشرق" وترجمه إلى اللغة العربية الدكتور عبدالرحمن عبدالله الشيخ ضمن مشروع الألف كتاب الثانية الذي قامت به الهيئة العامة للكتاب، وقد قام الدكتور عبدالرحمن الشيخ بتفنيد بعض المزاعم والآراء التي أوردها الأمير رودلف في الكتاب والتي تُظهر مدى جهله بالإسلام والمسلمين في تعليقات بالغة الدقة وتنم عن غيرة وطنية وثقافة عالية وعلم غزير للمترجم.

كانت زيارة الأمير رودلف نزيهة ولم يكن طامعا في الآثار، ولكنه كان يهوى صيد الحيوانات البرية والصقور والطيور الغريبة. وزار الإسكندرية وسواحل مصر الشمالية، القاهرة والفيوم، وتوغل في صعيد مصر حتى أسوان، فوصف رحلته النيلية والظواهر الجغرافية، وأبدى انبهارا بآثار مصر المقدسة على حد تعبيره، وعاد من أسوان ليمكث في القاهرة فترة أخرى ثم يتوجه إلى بورسعيد، ويعبر قناة السويس، ويتجول في البحر الأحمر، وبعدها يتوجه إلى الشام ويزور بعض موانيها ويتجه إلى القدس الشريف، ثم يعود إلى فيينا.
والرحلة ممتعة وتمتلئ بالمعاني والتلميحات ذات الدلالة.
بمجرد وصول الأمير إلى ميناء الإسكندرية أمر الخديو إسماعيل أحد كبار الموظفين بمعيته بمرافقة الأمير وهو عبدالقادر باشا، يقول عنه الأمير رودلف إن نصفه كان تركيا والنصف الآخر عربيا. وانطلقت المدافع تحية للأمير، وقام البحارة بإعداد الصواري، وكانوا يرتدون زيا له طابع عسكري على نحو ما، كما كانوا يضعون الطرابيش فوق رءوسهم. هبت عليهم روح الشرق القديمة الجميلة ممثلة في عزف السلام السلطاني التركي، ويبدو أنه كان شبيها بشكل ما بالسلام القيصري المجري، الذي جعل الأمير يتذكر هذا السلام الجمهوري الأخير.

وضع الخديو تحت تصرف الأمير بعض مركباته التي تجرها الخيول، كانت المركبات وخيولها إنجليزية، أما الخدم فكانوا دون استثناء فرنسيين، وكان زيهم أوروبيا تماما ليس فيه من الشرق إلا الطربوش. أما خارج المركبات فكان هناك من يجرون دائما أمامها وهم يصخبون ويصيحون بلا كلل ولا ملل، وكانوا يلبسون ملابس غريبة بأكمام واسعة بيضاء وفي أيديهم هراوات طويلة، وكانوا نحال البنية وأقدامهم رشيقة. 
ورغم هذا الاستقبال الملكي المميز للأمير، فإن الإسكندرية لم تعجبه، ويقول: فرغم انتظام شوارعها وجمالها، إلا أن شيئا ما عالقا بها يعد غريبا بالنسبة لنا، فالقذارة الشرقية والفوضى هي التي لفتت النظر للمدن الشرقية.
استغرق الأمير في وصف الإسكندرية من فوق أحد التلال ساعة الغروب ويتأمل قرص الشمس مزدانا بألوان خصبة وثرية، برتقالي وأحمر، وأزرق، وكل لون منها واضح وغير متداخل مع الألوان الأخرى، وكل الألوان تسبح في نور ذهبي.
كما شاهد قطعان الماعز بآذانها المائلة، وصفوفا من الجمال، كانت الماعز والجمال في طريقها إلى زرائبها وبصحبتها رعاتها يصيحون فيها. 
كما شاهد جنازة والناس يسيرون خلف تابوت خشبي دون غطاء سوى قطعة قماش مطروحة عليه، وفي مقدمة التابوت عمامة منحوتة من الخشب تنبئ بأن الرجل في طريقه إلى مثواه الأخير، وقد أحاط بالتابوت بعض الندابات يولولن بصوت عال، ووراء التابوت قوم يتلون الدعوات ويمشون ببطء. 

لاحظ الأمير منذ أن وطأت أقدامه القاهرة أنها مزدحمة بالناس، وأنها ممتلئة بالتجار، وتدور فيها حركة تجارية صاخبة. وكل الناس منهمكة في أعمالها، وكل شخص يحث حصانه أو حماره بكل ما يمتلكه من عنف، وكل شخص يدفع الآخر لينحيه جانبا، والكل يصرخ، ويضطر الغريب البائس في خاتمة المطاف لإلقاء نفسه بين ذراعي أول قادم. 
لم يشاهد الأمير في رحلته أي فرق عرقي بين المسيحيين في سوق الحمزاوي التي تمتلئ بالتجار المسيحيين واليهود في حي الجواهرجية، والمسلمين في حي النحاسين، ويرى الأمير أن البربر يشكلون جزءا من سكان مصر خاصة في الصحراء الغربية، وقد رآهم يعملون جنبا إلى جنب مع النوبيين في حراسة مراكز الصرافة وبيوت المال.

يعتبر كتاب الأمير رودلف عن الشرق بمثابة بحث متعمق في نشأة الديانات الثلاث الشرقية ومسيرتها على أرض فلسطين، فذكر أن اليهودية كانت الديانة الأولى التي دعت إلى عبادة الله، ويرى أن المسيحية تمتد أصولها إلى الديانة اليهودية، وعندما ظهر الإسلام أمكنه أن يحافظ على الديانات السامية القديمة، ولأنه لم يهدف إلا أن يكون استمرارا لها بين الأجناس نفسها استطاع لهذا السبب أن تكون له السيادة في هذه المنطقة وأن ينتشر منها إلى الشعوب الأخرى، ولا ينسي رودلف أنه غربي وينظر بازدراء إلى العادات والتقاليد الشرقية. 
ومع ذلك فقد قوبل بحفاوة في بيت البطريرك ويقول:
".. كان علينا أن نلتزم بالعادة الشرقية المرعية، وهي أن نتناول مشروبا عند كل زيارة، فقد بدأنا بالشكولاتة عند الفرنسيسكان، وكان علينا أن نتجرع شراب الليمون وعصير اللوز وكلاهما كان تفه المذاق وغير مستساغ". 
يقول الأمير رودلف عن اليهود إن حكاياتهم مقززة ولا تنتهي، «كان على مثلي في ذلك مثل كثير من المسافرين الآخرين أن أستمع إليهم، ولكنني كثير الشكر لله لأني نسيت معظم حكاياتهم، وأحيل القارئ المتسامح إلى تجرع جرعات من الدواء الذي يتجرعه مرضى الهوميو، فهو رغم بشاعة مذاقه يمكن تحمله أكثر مما يمكن تحمل حكايات اليهود».