رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا أحد ينام فى بغداد لأن المسرح يضىء الحياة

 

 

لا يمكننا تجاهل أثر الحضارات العظيمة «الحضارة المصرية القديمة- الحضارة السومرية. (حضارة بابل وآشور)- الحضارة الإغريقية والصينية.. إلخ» فى الثقافة.. إن الحضارة تقر فى وعينا الضمنى ونورثها لأجيال متعاقبة، لذا تظل الشعوب التى ورثت تلك الحضارات هى شعوب ثرية مهما تم إفقارها اقتصاديًا.. شعوب لها هوية مهما تعددت المحاولات لطمسها بالاستعمار والحروب وألاعيب العولمة والوسائط الحديثة، مرآتها عميقة غنية مهما عُمد إلى تسطيحها، ولقد كان مهرجان بغداد الدولى للمسرح مرآة عميقة لتلك الحضارة.. مهرجان احتفل بالحياة قبل أن يحتفل بالمسرح أو احتفل بالحياة عبر المسرح لذا استحق عن جدارة شعاره التاريخى «لأن المسرح يضىء الحياة». 

أولًا: المسار الفكرى

تضمنت فعاليات المهرجان مسارًا فكريًا تضمن: الملتقى الفكرى الذى أشرف عليه الدكتور رياض سكران ومعه الدكتورة سافرة ناجى، واختير له موضوع جدلى محفزًا على التفكير وطرح التساؤلات هو «التمسرح فى الخطاب الراهن وممكنات الاستجابة والتلقى»، وشارك فيه نخبة من أهم الباحثين فى الوطن العربى «الدكتور صلاح القصب والدكتور عقيل مهدى والمخرج عزيز خيون من العراق، والدكتور أبوالحسن سلام من مصر، والدكتور عبدالرحمن زيدان والدكتورة أمل بنويس من المغرب، والدكتور محمد المديونى (تونس) وكريم رشيد (السويد)»، ناقشت أبحاث الملتقى إشكاليات المصطلح وتحديات المسرح والجمهور فى عصر الوسائط الرقمية الحديثة.

كما تضمن المسار الفكرى الندوات التطبيقية التى شارك فيها عدد من نقاد المسرح فى العراق والوطن العربى، وتكمن أهمية تلك الندوات فى كونها بمثابة دليل استرشادى للباحثين والنقاد، وتضمن المسار الفكرى أيضًا عددًا من الورش، ولكن ما كان فخرًا لنا كمصريين الدور الذى أداه السينوغرافى إبراهيم الفرن، الذى لم يكتفِ بدوره كمدرب ورشة السينوغرافيا بل ساعد فى متابعة وتعليم التقنيين فى العراق كيفية التعامل مع أجهزة الإضاءة الحديثة، وساعد بإصلاح عدد من الأجهزة التى كانت معطلة بالمسارح مما استحق عنه التكريم فى ختام المهرجان، معززًا بأدائه التلقائى الصورة الإيجابية لقوة مصر الناعمة. 

ثانيًا: العروض المسرحية 

العامل الأهم فى إنجاح أى مهرجان هو جودة العروض المسرحية، فالمسرح هو ما يحدث فوق الخشبة «فضاء العرض المسرحى» كل ما يحدث خلاف ذلك من لقاءات وندوات يحدث لتطوير العرض المسرحى، وقد أضيئت مسارح بغداد بعروض مختارة بعناية «العراق- الأردن- سوريا- تونس- المغرب- الجزائر- أوكرانيا- فرنسا- روسيا»، وهو ما يجعلنا نوجه التحية للجان المشاهدة التى لم تجعل المتفرجين يهدرون وقتهم فى مشاهدة مسرح بلا طائل.. بداية من عرض الافتتاح الذى تم اختياره ليكون بداية قوية لإعلان عودة المسرح العراقى مسرحًا فتيًا متحررًا من بكائيات مفتوحًا على أسئلة الإنسان غير مقيد بأطر وأوهام الأيديولوجيات، العرض العراقى «طلقة الرحمة» وهو عرض سيزيفى بامتياز «بنية الحركة المكررة غير المجدية» مستلهمًا أدبيات إخضاع الجسد وآليات مقاومته، تلك الطرق التى يتم عبرها تحويل الجسد الإنسانى إلى جسد نظامى منخرط فى حركة القطيع، وكلما عبر عن ذاته كفرد خارج تلك المنظومة أصبح جزءًا من فوضى غير مقبولة، وفى مقدمة ذلك جسد المرأة الذى استهدفته بالأكثر الجماعات الظلامية التى تجعل أقصى همها طمسه، وكيف قاومت المرأة العراقية التى ألهمت نساء العالم أجمع فى تضحيتها وبسالتها فى مواجهة داعش.. وعن باقى العروض العراقية فقد كانت تعلن وبقوة عودة المسرح العراقى وتنوعه ما بين عروض الدراما والتعبير الجسدى والمسرح النسوى. وكذلك كانت العروض الدولية المشاركة عروضًا مميزة، معظمها من العروض الفائزة من قبل بجوائز أو التى نالت إعجاب واستحسان النقاد والجمهور حال عرضها فى مهرجانات مسرحية أخرى. 

ثالثًا: الجوائز 

اختتم المهرجان فعالياته يوم الجمعة معلنًا العناصر الفائزة فى العروض التى تضمنت:

■ مسرحيّة «كاليجولا» للمخرج الأوكرانى أليكسندر كوفشان بجائزة أفضل عرض متكامل. 

■ أفضل أداء جماعى: مسرحية: «طلقة الرحمة» تأليف وإخراج: محمد مؤيد/ العراق.

■ أفضل نص مسرحى: وفاء الطبوبى عن مسرحية: «آخر مرة» تونس.

■ أفضل ممثل: ماكسير سطارليك عن مسرحيّة «كاليجولا» أوكرانيا.

■ أفضل ممثلة: مريم بن حميدة عن مسرحية: «آخر مرة» تونس. 

■ أفضل مخرج: وفاء الطبوبى عن مسرحية: «آخر مرة»/ تونس.

■ أفضل سينوغرافيا: د. طارق الربح عن مسرحية: «شا طا را» المغرب. 

أعود للمشهد الأخير فى العرض المسرحى «طلقة الرحمة» حيث تتبدى فيه القوة وتفرد الأجساد، إلا أن تلك الأجساد فى محاولات مستميتة للإفلات من شرائط سوداء ملتفة حول أعناقها هى ذاتها شرائط تسجيل الكاميرات والبث للقنوات والسوشيال ميديا، فهى التى تطلق علينا الرصاصات حين تقذف للعالم مئات الصور والفيديوهات التى تسجلها من زاويتها الضيقة لتصدر للعالم صورًا تنمطنا وتسطحنا وتبعث برسائل ضمنية عن دولنا بوصفها دولًا غير آمنة وشعوبًا عشوائية، لتجعل تلك الزاوية التى تلتقط منها مشهدها هى الحقيقة الوحيدة. 

رسالة المشهد الأخير هى ذاتها رسالة المهرجان، الرسالة التى جاهدنا نحن أيضًا فى وقت من الأوقات أن نرسلها للعالم، إن مصر وبغداد آمنتان وستظلان آمنتين، ستحميهما حضارتهما وثقافة شعوبهما المستقرة القادرة على الانتصار على جيوش الظلام فى كل وقت، ولن ينتصر الظلام والعصابية أبدًا على حضارتين هما أقدم حضارتين ظهرتا فى تاريخ العالم.