رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأستاذ بهاء طاهر.. النقاء والمحبة والعذوبة

للأستاذ بهاء طاهر «١٣ يناير ١٩٣٥- ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٢» منزلة كبيرة فى قلبى، ليس فقط لأنه كاتب كبير ومثقف نادر، ولكن بسبب شخصيته الودودة والمحبة، وبسبب ابتسامته العذبة التى تسبقه أينما ذهب، قبل استقراره النهائى فى مصر سنة ١٩٩٥، كان يأتى فى زيارات، وكانت القاهرة التى تركها مجبرًا فى السبعينيات قد تغيرت، وكنت ألتقيه مع أساتذتى وأصدقائى، إبراهيم منصور وعلاء الديب وشوقى فهيم وجميل عطية إبراهيم وسيد البحراوى ومحمد البساطى وإبراهيم أصلان ومصطفى نبيل وتوفيق عبدالرحمن، رحمة الله عليهم جميعًا، كنت الأصغر سنًا، والأكثر إصغاء، سرعان ما صرنا صديقين، وبعد أن استقر، بدأ يطل على المقهى الذى نجلس إليه، كان يصغى إلى جيل جديد، ويتحمس، لم نشعر معه بأننا أمام نجم كبير، ولم يلعب دور الأستاذ الناصح، خبراته العريضة فى الحياة جعلته شفافًا، لم نشاهده يغتاب أحدًا، ولم يقلل من شأن أحد، ولكنه أيضًا لم يشارك فى الترويج لكاتب ضعيف المستوى. بعد خروجى من العزاء، أمس الأول، شعرت بأننى فقدت الذين تعرفت عليه من خلالهم مرة واحدة، فى السنوات التى سبقت عزلته الأخيرة كنا نلتقى كثيرًا، وسافرت معه إلى الأقصر فى رحلة لن تُنسى، وضع حجر الأساس فيها لقصر ثقافة يحمل اسمه فى الكرنك، على أرض تبرع هو بها، وذهبت معه لصلاة الجمعة فى البر الغربى وجلسنا مع فضيلة شيخ الأزهر، هو صاحب مكانة عظيمة فى الأقصر، كان من القلائل فى جيله الذين يحبون الشعر الجديد، ويستطعمه، ويشجع كُتّابه، هو بدأ شاعرًا، وخطفته القصة القصيرة، كتب الأستاذ بهاء ستة نصوص روائية هى، «شرق النخيل»، و«قالت ضحى»، و«نقطة النور»، و«خالتى صفية والدير»، و«الحب فى المنفى»، و«واحة الغروب»، وخمس مجموعات قصصية هى «الخطوبة»، و«بالأمس حلمت بك»، و«أنا الملك جئت»، و«ذهبت إلى شلال»، و«لم أعرف أن الطواويس تطير»، وهى الأعمال التى يعرفها محبو الأدب العظيم، والتى ترجم معظمها، ونوقشت فى رسائل جامعية فى جامعات مصر والعالم، نادرًا ما كان يتحدث عن أعماله، وكان يسأل قراءه كل مرة عن رأيهم فيما يكتب، وكأنه فى بداية الطريق، منذ نهاية تسعينيات القرن الماضى كنا نحتكم إليه فى المسائل الملتبسة، وكان يحسم الأمور بجمل بسيطة نافذة، كان مع أحمد فؤاد نجم وصنع الله إبراهيم قادة حقيقيين لنا، ونحن نؤسس «أدباء وفنانون من أجل التغيير» لمحاربة التوريث، ونحن نتصدى لدستور الإخوان والسلفيين، وكانوا على رأس الوقفات الاحتجاجية، بهاء طاهر كان يحلم لمصر كلها، صوته القريب من القلب كان يبعث الطمأنينة فى قلوبنا، سأله أحد الصحفيين عن سبب انشغاله بقضية الاستبداد، فأجابه بأنها لم تشغله كموضوع مستقل بذاته‏،‏ «بل ثمة قضايا أخرى تستدعى الرجوع إليها بتأمل روايتى (الحب فى المنفى) وغيرها، مثلًا، كان يشغلنى فى رواية (واحة الغروب) الاستبداد، الاستبداد من جانب الاستعمار الإنجليزى فى بداياته، والذى نجم عنه تفكيك المجتمع المصرى‏،‏ أو الاستبداد فى أيرلندا والذى عبرت عنه‏ (كاترين) بطلة الرواية‏،‏ أو ربما الاستبداد الذى يعانيه المجتمع الصغير لواحة سيوة‏، هو أيضًا الاستبداد فى عهد الإسكندر الأكبر والذى ولد معه الخوف والخيانة وتمزق الشخصية»‏، هو تحدث عبر سطور الرواية فى إفاضة عن المصريين القدماء وسلطان الكهنة والإسكندر الأكبر الذين جعلوا منه فرعونًا وأوحوا إليه بفكرة ‏«السلطة المطلقة» التى تتنافى مع تعاليم أرسطو، معلم الإسكندر الأكبر فى صباه، والذى درّس له مبادئ وأسس الديمقراطية الأثينية واليونانية، تلك هى الأفكار الرئيسة التى حاول التعبير عنها‏ فى «واحة الغروب»، كان يعتقد أن الكتابة تستخرج بواطن الأرواح، وغايتها أن نستخلص ما نريد، وكان يقول إن شخصيات رواياته وقصصه تعيش معه لم يمت أحد منها، لأن الكاتب يفنى وتبقى آثار حكاياته علامات أصيلة على أن كائنًا ما عاش هنا منذ زمن، توجد جوانب عديدة فى حياة طاهر، فهو مترجم وإذاعى ومخرج ومسرحى، فهو من مؤسسى البرنامج الثانى فى الإذاعة سنة ١٩٥٧، وأخرج عددًا كبيرًا من المسرحيات مثل «مأساة الحلاج» لصلاح عبدالصبور بطولة محمود مرسى، وثلاثية نجيب محفوظ ومسرحيات عالمية كثيرة منها «أوديب ملكًا»، «أنتيجون» لسوفوكليس.. «الليلة نرتجل» للإيطالى بيرانديللو، ومسرحيات لأبسن، ويوجين أونيل، وإليوت، وبول فاليرى.. أكثر من ٢٠ مسرحية عالمية قام بهاء طاهر بإخراجها، هو لم يكتب للمسرح سوى مسرحية واحدة «مونودراما» هى «كان».. لم تُقدم على المسرح، لكنها نشرت فى مجلة الآداب اللبنانية، ومارس أيضًا النقد المسرحى.

وأصدر كتاب «عشر مسرحيات مصرية.. عرض ونقد»، وله ترجمات عديدة، ولعل أشهرها «السيميائى» لباولو كويلو، تاريخ عظيم فى خدمة الثقافة، تاريخ عظيم من المحبة والنقاء والعذوبة.. ألف رحمة ونور يا أستاذ بهاء.