رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معًا من أجل إنقاذ وترسيخ صناعة السياحة الثقافية فى مصر!

هناك مقدمة من اللازم توضيحها، وهى أن الهدف من هذا الحديث ليس نقد أو إدانة جهاتٍ بعينها أو أفراد بعينهم فى منظومة السياحة. لكن الهدف هو أولا لفت الانتباه إلى بعض معوقات أو ما يمكن أن يسبب فوضى أو ارتباك فى المشهد السياحى، ثم ثانيا توجيه دعوة أو نداء مخلص لممثلى جميع أطراف تلك المنظومة من جهات إدارية حكومية وقطاع خاص ومؤسسات مهنية أن يجلسوا سويا لبحث أفضل الطرق للتعاون بينهم جميعا من منطلق وطنى خالص وهو أن تصبح السياحة الخارجية هى الظهير الاقتصادى الداعم للخطط التنموية لمصر.

(1)

دور السياحة الاقتصادى

وطنٌ يعانى من ترهلِ سكانى، وقيادة دولة تصل الليل بالنهار لتنفيذ خطط تنموية بطول البلاد وعرضها لمحاولة استيعاب تلك الأعداد وتوفير متطلبات العيش والعمل لها..

فى حالة كهذه - ومع كل ما واجهه هذا الوطن من حرب تكسير عظام موجهة من الخارج – تصير الحاجة إلى كل دولار أو يورو من الخارج للداخل حقيقة يقينية لا تقبل الشك.. وتصبح الموارد التى يمكنها أن توفر تلك الدولارات فى قمة أولويات تلك الدولة، وعلى قمة تلك الموارد تأتى السياحة الخارجية!

منح الله مصر من عوامل الجذب الطبيعية والتاريخية ما يمكنها من التربع على عرش السياحة الخارجية ليس فقط فى منطقتنا الإقليمية، لكن على المستوى العالمى..

هذا ما أدركته قيادة الدولة المصرية وقامت على إثره بتأسيس المجلس الأعلى للسياحة لتوفير متطلبات تلك الصناعة العريقة فى مصر ودفعها فى الطريق الصحيح اللائق بمصر.

فالسياحة الخارجية يمكنها عن حق أن تتحول لتصبح أحد المصادر الأولى لضخ العملات الصعبة فى شرايين الاقتصاد المصرى..

(2)

بعض المشاهد على الأرض لرؤية الصورة بشكل واضح

تعلمنا نظريا وعمليا عبر سنوات العمل فى هذه الصناعة، أنها صناعة هشة تكون دائما فى مقدمة الصناعات التى تتأثر بأى عوامل اضطراب خارجية أو داخلية.

لا يمكننا فعل شىء إذا ما أتت المعوقات بفعل ظروف سياسية أو طبيعية خارجية مثل الحروب أو الأوبئة كأزمة كوفيد مثلا.. أو إن كانت ظروفا داخلية استثنائية مثل ما مرت به مصر فى أعوام الاضطراب السياسى.

لكن حين تكون ظروف الخارج مثالية لكى تنال مصر موقعها السياحى الذى يليق بها، وحين توجه القيادة السياسية الأجهزة التنفيذية بتوفير كل عوامل النجاح لتلك الصناعة، ثم نفاجأ على الأرض بمعوقات قد تفسد تلك الصناعة تماما فى الأعوام المقبلة – خاصة مع توقع اشتداد المنافسة مع أسواق جديدة ناشئة فى المنطقة - ساعتها يكون الصمت جريمة وطنية!

سأكتفى فى هذا الموضع بما شاهدته فى بعض المناطق الأثرية خاصة فى صعيد مصر كأمثلة واقعية لنقل الصورة للجميع..

يوم الخميس الذى وافق يوم نصر أكتوبر كنتُ على موعد مع مشهد عبثى محزن فى منطقة معبد كوم امبو.. فى السادسة مساء..عدة آلاف من السائحين ينتظرون فى الساحة أمام المعبد بينما يتكدس عشرات المرشدين أمام الموظف الوحيد بشباك التذاكر لقطع تذاكر إلكترونية..المهزلة كانت فى إجابة التساؤل .. لماذا لا يكون هناك أكثر من موظف..الإجابة جاءت نصا( فعلا فيه مكان لموظف تانى..بس مكانه مليان أجهزة..وإدارة المخازن رافضة تستلم الأجهزة وتفضى المكان!)

فى صباح اليوم الثانى وفى مدينة إدفو سمعنا تعليقات الزائرين الساخرة.. إدفو تمثل حالة مزمنة منذ سنوات.. قمامة تصدم نظر الزائرين طول الطريق من المرسى النيلى إلى المعبد.. ومنذ أكثر من عام فالمرسى النيلى محطم.. شوارع المدينة محطمة لتوصيل الغاز.. تمت تغطية الحفر ومازالت الشوارع تعج بالتراب والفوضى المرورية التى يشعر معها كل سائح أن (الحنطور) الإجبارى الذى عليه ركوبه للوصول للمعبد على وشك الاصطدام بسيارة أو حنطور آخر!

مساءً وإذا ما فكر الزائرون فى مغادرة الفنادق العائمة للتنزه على المرسى النيلى يفاجئون بفوضى (التكاتك المسرعة)..شارع المرسى النيل عبارة عن قطعة فوضوية التكاتك تسابق الحناطير فى السرعة وسيارات خاصة تحاول شق طريقها بين الجميع!

ويبقى السؤال لماذا لا يتم منع التكاتك من العبث بالشارع الرئيسى الأول والأوحد بالمدينة؟!

نصل أخيرا لأرض المعركة.. شباك تذاكر بموظف وحيد..آلاف السائحين يزدحمون فى مساحة ضيقة انتظارا للتذاكر!

يحدث هذا فى حين أن الموضوع فى غاية البساطة لو لم يتحكم فى المنظومة الفكر الوظيفى البيروقراطى.. لماذا لا يكون هناك ثلاثة أو حتى أربعة موظفين فى أوقات الذروة من الموظفين المكتبيين الموجودين بالفعل فى كل منطقة! 

فى مرسى مدينة إسنا.. يوجد مرسى للبواخر السياحية الكبيرة.. بينما تصطف الدهبيات الصغيرة فى موضع آخر من المرسى لا يوجد به خدمات أمنية.. كانت مفاجأة مخجلة مساء السبت الثامن من أكتوبر.. حين قفز أحد الأهالى فوق السور المعدنى إلى داخل المرسى.. ثم قام بقضاء حاجته على مرأى من بعض السائحين النزلاء ببعض الدهبيات الواقفة هناك!

فى منطقة أثرية إسلامية بالقاهرة، سأل المرشد السياحى الموظف المسئول.. هل هناك تذاكر أجانب لزيارة قبة الإمام ...؟ فرد الموظف قائلا ما يصحش ناخد فلوس من ضيوف مولانا..وفى الخروج بعد الزيارة كان هناك من يمسك بأسطوانة زجاجية يجمع بها ما يمكن اعتباره تبرعات تؤخذ بسيف الحياء من ضيوف مولانا!

(3)

موسم استثنائى يستحق الاهتمام والتفكير للمستقبل.

هذا الموسم يبشر بطفرة فى زيادة أعداد السائحين عن الأعوام الماضية، وهذا يجعلنا نهمس فى أذن كل صاحب قرار بما نشاهده على الأرض حتى لا نهدر على مصر فرصة ذهبية لكى تنال قدرا من موضعها الذى تستحقه على خريطة السياحة الدولية.

وأول ما نحتاجه هو التفكير فى إدارة المناطق الأثرية وطريقة الدخول إليها بشكل جديد ومختلف بدءًا من عدد موظفى حجز التذاكر، مرورا بعدد بوابات الدخول الإلكترونية، والأهم هو وضع خطة طويلة الأمد لزيادة عدد الحجرات الفندقية بكل من الأقصر وأسوان.. وأسوان تحديدا فى حاجة لتلك الزيادة لاستيعاب الزيادة المتوقعة..

(4)

أهمية الدور الأمنى فى منظومة السياحة

شخصيا أدرك جيدا الدور الوطنى الذى قامت به – ولا تزال – الشرطة المصرية فى العقود من السبعينيات وحتى الآن. لقد قمت بتسجيل وتوثيق هذا الدور فى كتابين من كتبى. لقد كانت الشرطة المصرية هى المؤسسة المدنية التى قدمت وحدها من دماء وأروح رجالها ثمنا غاليا لحياتنا نحن المصريين.

لذلك فإننى لا أحب أن أقف كثيرا أمام بعض المواقف السلبية التى تصدر عن بعض أفراد هذا الجهاز الوطنى، وأعتبرها مواقف لا تعبر إلا عن أشخاص. لكن ربما يكون من تمام الفائدة للجميع التنبيه إلى الحاجة الماسة لدورات توعية خاصة موجهة للكوادر الشرطية التى يتم وضعها فى إطار منظومة السياحة المصرية.

فهناك جملة سمعناها أكثر من مرة من بعض رجال الأمن الذين يخدمون فى قطاع تأمين الأفواج أو شرطة السياحة..هى جملة سلبية قطعا، لكن الأهم أنها تنقل رؤية بعض هذه الكوادر لتلك الصناعة وبما يترتب عليه كيفية قيامهم بدورهم..هذه الجملة هى (ما تغور السياحة هو إحنا واخدين منها إيه!)

كما أن طغيان رؤية معينة لدى بعض الأفراد أو الأمناء ممن يتعاملون فى المناطق السياحية وهى فكرة الاهتمام بالجانب الورقى الشكلى يقود أحيانا المشهد إلى فوضى وارتباك على بوابات الدخول..

من هذه الرؤى السلبية (مش واخدين حاجة من السياحة- الاهتمام بالجانب الشكلى الورقى) يمكننا تخيل عشرات المواقف اليومية التى يحدث بها تصادم بين بعض رجال الأمن فى هذين القطاعين وبين بعض المرافقين للأفواج السياحية من موظفى الشركات السياحية أو المرشدين السياحيين.

ووجود هذه الرؤى لدى البعض القليل لا يمنعنى من الإشادة بالغالبية العظمى من رجال هذين القطاعين خاصة رجال شرطة السياحة فى مناطق الصعيد من حيث التفهم والأسلوب الراقى فى تعاملهم مع الزائرين والعاملين بالقطاع، فهم بحق خير ممثلين لهذا الجهاز الوطنى.

(5)

مشاهد عاجلة تستحق التدخل

بعض المناطق مثل كورنيش أسوان السياحى يحتاج إلى وقفة حاسمة لإعادة الانضباط إليها والسيطرة على ظاهرة (الخِرتية) الذين يحولون محاولة أى سائح للتمتع بتمشية على الكورنيش لمدة دقائق إلى كابوس حقيقى!

دورات توعوية إجبارية يجب أن يخضع لها كل سائقى (الحنطور السياحى) فى صعيد مصر(الأقصر- إدفو- أسوان). يجب ربط منح ترخيص امتلاك وقيادة أى حنطور باجتياز تلك الدورة حتى لو كانت محاضرات تلقينية شفهية يعقبها اختبار حقيقى، حتى يمكن ضبط سلوك التعامل بين هذه الفئة المهمة وبين الزائرين!

(6)

كلنا متشاركون فى المسئولية

لا أتفق مع كثيرٍ من الزملاء بأن أخطاء منظومة السياحة تقبع فقط فى الجهات الإدارية. فظاهرة تكدس السائحين على أبواب منطقة أثرية بعينها فى وقت معين تؤكد بوضوح غياب أى تنسيق بين صناع البرامج السياحية، وغياب العقليات المبتكرة التى يمكنها أن تضيف أو تحذف لقائمة المزارات ما يخفف من وطأة هذه الظاهرة خاصة أن مصر تتميز بوفرة فى تلك المناطق. فالجميع يسوّق برامج قديمة عتيقة دون أى تفكر أو محاولات تجديد وابتكار..

الفنادق العائمة التى تبيت ليلتها فى مدينة إدفو لم تقم سابقا بأى محاولات تنسيق لتقسيم أنفسها إلى مجموعات تقوم كل مجموعة منها بعمل الزيارة فى وقت مختلف..لأن الجميع يتسابق دون ابتكار أو خلق!

إن الأخطاء التى تعانى منها السياحة هى أخطاء مردها الأكبر السلوك المصرى الجمعى وطريقة التفكير المصرية، فعلينا أن نتشارك جميعا فى تحمل المسؤلية..لا أن نتقاذفها ونحاول أن نتنصل منها ونلقى بها فى وجوه الآخرين..

فالسلوك فى الشارع يقوم به مواطنون مصريون.. والعقلية البيروقراطية التى نواجهها فى بعض الأماكن سواء من العاملين بالقطاع الحكومى أو الخاص فهذا من بقايا الإرث الثقيل الذى سندفع ثمن التخلص منه سويا..

 

(7)

بعض الأفكار أمام ممثلى المنظومة

يمكن القول إننا الآن فى مشهد (ارتباك) سياحى فى كثيرٍ من مناطق الصعيد وإننا جميعا – جهات إدارية وعاملون فى القطاع - مسئولون عن هذا الارتباك!

وكما ذكرت فأنا لم أكتب هذا المقال لإدانة جهة ما أو طرف ما من أطراف المنظومة دون باقى الأطراف. لكننى كتبته فى محاولة لإطلاق نداء إنقاذ لتلك الصناعة الحيوية لمصر. لأن الهدف ليس فقط العبور بهذا الموسم السياحى لبر الأمان، لكن الهدف هو العودة بتلك الصناعة – التى أصبحت من 2011م صناعة موسمية -  لتصبح صناعة دائمة ومورد دخل دائما لمصر.

أى أننا وبالعامية المصرية يجب ألا نتعامل مع السائح بمنطق التاجر الذى لا يكترث بأن يعود الزبون إليه مجددا دون غيره من التجار! بل أن نتعامل بمنطق واضح محدد يردده المصريون (إننا بنربى زبون)..يجب أن نعمل على ذلك ولا نسعد بموسم استثنائى ثم نفاجأ بعد ذلك بعزوف كثيرين عن العودة مجددا..

ومن أجل إدراك تلك الغاية فإننى أقترح أن يقوم ممثلون عن مختلف أطراف المنظومة بعمل زيارات ميدانية غير رسمية وبشكل غير معلن لتلك المناطق فى ساعات الذروة ومشاهدة ما يحدث على الأرض مع السائحين.

إن العمل الميدانى يمنح العقل حيوية وقدرة على خلق حلول عملية، بخلاف العمل المكتبى البيروقراطى أو حتى الزيارات الرسمية المعلنة لكبار الموظفين والتى تكون غالبا بعيدة تماما عن إدراك الوضع على حقيقته.

فمثلا لماذا لا يقوم كبار موظفى الإدارات المختلفة من الوزارات المعنية بالسياحة بزيارات حمامات المناطق الأثرية دون سابق إعداد؟ والوقوف فى صف قطع التذاكر صباح الأربعاء أو الخميس من شباك تذاكر إدفو كزائرين عاديين؟

ولماذا لا يتم فتح ملف مدينة إدفو، أو على الأقل الشوارع التى تربط بين المرسى السياحى وبين المعبد؟!

لماذا لا نفكر مثلا فى تغيير آلية الوصول إلى المعبد وبدلا من الحناطير يتم الاستعانة بعربات كهربائية صديقة للبيئة ويمكن أن يتم إعادة تأهيل نفس الذين يقومون بقيادة الحناطير للقيام بقيادة تلك السيارات مثلما يحدث فى الدير البحرى فى الأقصر حتى لا تتأثر دخولهم وحياتهم الاجتماعية.

ويمكن الاستفادة من شهور الصيف القادم بالقيام بعملية الإحلال والتجديد هذه. أو على أقل تقدير فيمكن منح الشركات السياحية ومنح السائحين حرية اختيار الوسيلة سيارة أو حنطور. لكن أن يتم إجبار السائحين على استعمال الحناطير بهذا الشكل المذرى فقد حول هذا السلوك زيارة إدفو إلى تجربة غير سارة وغير مبهجة للزائرين!

بعد العمل الميدانى يمنح الاجتماع المكتبى الدورى لممثلى هذه القطاعات من وضوح الرؤية ما يمكنهم من الوصول لحلول حقيقية واقعية وآليات لتطبيقها على الأرض.

إننى أشعر بالخجل من أن أتوجه بندائى فى هذا الموضع للسيد الرئيس عبدالفتاح السيسى. لأنه ليس من المفترض أن يقوم الرجل بما هو اختصاص واضح لقيادات تنفيذية كثيرة.

مصر فى حاجة ماسة إلى عقول وسواعد أبنائها فى كل القطاعات. وحق هذا الوطن علينا جميعا أن نتحدث حين يكون الصمت تواطؤا مع مشاهد محزنة أو مشينة. وها أنا قد تحدثت بما رأته عينى وسمعته أذنى.. وكان حديثى فقط من أجل هذا الوطن.. فكم أتمنى أن يقوم مَن لهم قوة الفعل بما تَرضى به مصر ويُرضى ضمائرَهم!