رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ومن تانى أكيد راجعين..

«خرج والمفروض يَعد».. قصة أول معرض عن هجرة المصريين فى الخليج

جريدة الدستور

«شرائط كاسيت.. جوابات.. صور فوتوغرافية.. لوحات.. كراتين.. قطع أثاث.. ألبومات صور عائلية»... أشياء تُجسد معاناة المغترب فى الخليج بحثًا عن لقمة العيش، وتشكل متنفسًا يحميه من اجترار الذكريات وسهر الليالى وتعب النهارات المتتالية.

كل هذه الأشياء جمعها معرض «خرج والمفروض يَعُد»، الذى يوثق تجربة هجرة المصريين إلى الخليج قبل عشرات السنين، وتم افتتاحه يوم ٢ أكتوبر الجارى فى مركز «الصورة المعاصرة» بوسط القاهرة، ويستمر حتى نهاية الشهر.

ويطرح المعرض تساؤلات عن هجرة المصريين إلى الخليج، ويهدف إلى تقديم إنتاج معرفى أنثروبولوجى بصرى حول تلك التجربة، عبر ٣ عناصر أساسية، هى معرض يضم مجموعة من الأعمال الفنية ذات الوسائط المختلطة التى تتفاعل مع جوانب مختلفة من هذه التجربة، وبرنامج ديناميكى يهدف إلى فتح المجال لإجراء مناقشات أكبر مع الجمهور، وأخيرًا مطبوعة تشاركية يسهم محتواها الفكرى والإبداعى فى الأدبيات المتعلقة بهجرة المصريين للخليج.

والأعمال الفنية المتنوعة الموجودة فى المعرض من لوحات وألبومات صور وشرائط كاسيت وخطابات وقطع أثاث وكراتين هى نتاج ورشة عمل من تنظيم «أنثروبولوجى بالعربى»، لمناقشة التجربة عبر مواضيع مختلفة، مثل: الذاكرة والموت والأبوة والانتماء والطموح.

وضمت المعروضات مراسلات وخطابات تعبر عن الحنين والشوق والاطمئنان على الأسرة، إلى جانب كراتين كانت تجمع أغراض المسافرين من الخليج إلى مصر والعكس، ولوحات فنية كان يرسمها الأطفال فى غربتهم، ومحادثات كتبها المشاركون فى الورشة دارت بينهم وبين المسئولين فى الغربة عن تأشيرة السفر وموعد الطائرة والأغراض التى سيأخذونها معهم خلال سفرهم، وأخرى تعبر عن الفرحة التى تنتابهم وهم عائدون إلى وطنهم.

وحظى المعرض بإشادة كبيرة من قبل زواره والجمهور على مواقع التواصل الاجتماعى، الذين أعجبتهم فكرة تجسيد حياة كثير من الأسر التى سافرت- أو أحد أفرادها- إلى الخليج فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى.

وقالت فرح حلابة، المسئولة عن المعرض، إن فكرة مشروع «خرج والمفروض يَعُد: عن هجرة المصريين للخليج» جاءتها من شعورها بالتعاطف مع والدها والعجز تجاهه، لأنه ما زال فى الخليج حتى الآن، ولا يملك رفاهية العودة إلى مصر بسبب الالتزامات المادية، ورغم ذلك حياته فى الخليج محكوم عليها بالنهاية على كل حال، لأنها بطبيعتها حياة مؤقتة.

وأضافت «فرح» لـ«الدستور»: «المشروع ليست له علاقة بالـ١٨ عامًا التى عشتها فى الرياض، لأنى ببساطة لم أتذكر معظم ذكرياتى من هذه السنوات، وهو ما حدث مع كثير من الفنانين المعروضة صورهم وأعمالهم فى المعرض».

وواصلت: «لا يوجد الكثير من الذكريات التى أحملها معى من هذه التجربة، لكن ما يلازمنى أكثر هو روتين والدى ووحدته، وهذا يجعلنى أرى تجربتى وتجربة عائلتى فى سياق تجربة أوسع لهجرة تركت بصماتها على حياة كثير من المصريين وملامحهم».

وفى آخر زيارة لـ«فرح» إلى السعودية منذ سنوات، كشف والدها عن وصيّته، التى قال فيها: «أنا عايز أندفن فى مصر»، وهى الجملة التى استوقفتها كثيرًا، وجعلتها تفكر فيه وفى خططه هو ووالدتها عندما سافرا فى التسعينيات، تلك الخطط التى تحوِّلت من: «هنسافر السعودية كام سنة عشان نأمن مستقبل أحسن وبعدين نرجع» إلى «أنا مش عايز أندفن هنا».

وقالت صاحبة المعرض تعليقًا على ذلك: «ده خلانى أفكّر كتير فى إن التجربة دى دايمًا مؤقتة، إننا متفقناش نموت أو نندفن هناك، اتفقنا نرجع، اتوعدنا نرجع، مهما تأخر الرجوع، ولو اتأخر لـ٣٠ سنة المهم نرجع، سواء على رجلينا أو جثث.. إحنا اتوعدنا برجوع نهائى، سواء بحكم الحنين للوطن، أو بتحسّن فى الوضع الاجتماعى، أو حتى ببيت نملكه، نقدر نقول الرجوع بحاجة تخلّى الهجرة كانت تستاهل».

وأضافت: «إحنا أو أى فرد أو أسرة بيسافروا الخليج إحساسهم بالزمن بيتغير، بيحسوا إن مستقبلهم موصلش، وإن حاضرهم بيتعطَّل، وإن ماضيهم ملهمش مكان فيه... أهالينا بيسافروا لتأمين مستقبل غامض عمرهم ما بيوصلوله، بيعيشوا حياة مؤجلة، زى حياة والدى».

وواصلت: «إحنا وكل اللى سافروا الخليج لينا قصصنا الفريدة، اللى ليها وزنها وتأثيرها، لكن للأسف محدش اهتم بيها قبل كده، علشان كده قررت أجرِّد التجارب الشخصية لأسئلة أنثروبولوجية، وأفكَّر فيها بشكل جماعى».

وأوضحت أن «المعرض بدأ بورشة تشاركية على مدار ثلاثة أشهر فى بداية هذا العام، أردنا أولًا أن نواجه بتساؤلاتنا اعتيادية تجربة الهجرة تلك، بدأنا بمناقشة حول التطلُّعات والأحلام والهجرة، ولكى نتأمَّل هذه المحاور من منظور أنثروبولوجى تفاعلنا مع كتابات صامولى شيلكا عن أحلام المهاجرين».

وتابعت: «التطلعات والأحلام كانت هى المدخل الذى تناولنا من خلاله مفهوم (الزمنية)، وباعتبار هذه الهجرة (مؤقتة) بطبيعتها، تحدثنا عنها كتجربة زمنية أكثر من كونها تجربة مكانية، وفى محاولتنا لفهم النسيج الزمنى لهذه الهجرة، ناقشنا باستفاضة الآمال والتعليم وثقافة الاستهلاك والحراك الطبقى».

أتى بعدها «دور الأب وديناميكيات العائلة»، وفق «فرح»، مضيفة: «فكَّرنا فى التحوّل الذى يُحدِثُهُ الخليج فى نموذج الأب والأبوة، أخذًا فى الاعتبار السياق والمؤقتية، وبسبب غياب المصادر التى تدرس هذا الأمر نظرنا إلى الأفلام والمسلسلات التى تناولت الهجرة إلى الخليج».

ثم ربط القائمون على المعرض هذه النماذج الدرامية كلها بلا استثناء، بين الخلل الأسرى وهجرة أحد أفراد الأسرة إلى الخليج، وناقشوا الأمر باستفاضة من خلال مقال: «ماذا فعلت هجرة المصريين للخليج بدور الأب؟»، خاصة أنه دائمًا ما توجد قصص حول الغياب والحضور، وقليلًا ما يتم تناولها.

وأضافت: «بينما نناقش هذا التناول الدرامى، تحدَّثْنا أيضًا عن ذكرياتنا الشخصية، ومثَّل ذلك جزءًا كبيرًا من مناقشاتنا، وحرَّك مشاعر أغلبنا، أدركنا أن ذكرياتنا خانتنا بشكل جماعى، لم تكن مهمةً سهلةً أن نتذكر بوضوح ما شعرنا به، ما ارتديناه، ما عِشناه، ما تشاركناه من أوقاتنا، ما تبقَّى من الخليج كان حسِّيًّا أكثر منه شعوريًّا، فالذكرى الأكثر حضورًا كانت من نصيب الروائح ومذاق الطعام وأجواء المجمعات التجارية والأسواق والطرقات والطقس وما إلى ذلك».

اختلف صدى تلك المحاور بالنسبة لكل فرد من المشاركين، لكن أغلبهم تفاعلوا مع الأفكار المتمحوِرَة حول الذاكرة فى إنتاجهم لأعمالهم الفنية، فهناك أعمال دعت بعض الأشخاص لاستحضار الذكريات كما هى، بينما استخدم آخرون خيالهم الشخصى فى سد فجوات الذاكرة.

كان النظر إلى المنازل طريقةً أخرى لفهم ديناميكيات هذه الهجرة المؤقتة، عبر محاولة إيجاد أنماط داخل أثاث المنازل فى الخليج، بالمقارنة مع عملية تأثيث البيوت فى مصر.

بدأ الأمر بتساؤل: «أين الصالون المذهَّب فى الخليج؟».... «الصالون المذهَّب» هو قطعة الأثاث الثمينة المبالغ فى زخرفتها، أو ما يمكن تسميتها الواجهة الاجتماعية للمنزل، كانت تلك هى القطعة المركزية فى بيوتنا فى مصر، لكن منازلنا فى الخليج تمتعت بقطع عملية من الأثاث أقلّ استعراضية.

يقودنا هذا إلى فهم مختلف لـ«الانتماء»، وفق «فرح»، لذا «قرَّرْنا التوسُّع فى ذلك البحث بدعوة جمهور أوسع (أونلاين) ليرسلوا لنا صورًا لبيوتهم فى الخليج»، مشيرة إلى أن ذلك عبَّر عن مشاعرهم المتباينة بين مفهومَىْ «المسكن» و«المنزل»، أو بين «المؤقت والدائم».

تولَّتْ لينا الشامى عملية إنشاء هذا الأرشيف وتحليله بدقة فى مقالها: «بيوت مؤجلة وأشياء مُكَرْتَنة: من الخليج إلى مصر»، خاصة أن عددًا قليلًا جدًّا من الأفلام والمسلسلات يذهب بالكاميرا إلى الخليج، ما يؤدى إلى فقر فى المخزون البصرى عند المصريين تجاه منازلهم هناك وكيف تبدو عاريةَ الحوائط ومفروشة الأرض بالموكيت!

كما ناقش المشروع- والحديث لا يزال لـ«فرح»- محورًا مهمًا هو «الموت فى الإعارة»، موضحة ذلك بقولها: «تحدثنا أولًا عن جانب لم يُبْحَث كثيرًا عنه فى دراسة الهجرة، وهو الموت، وكيف يضاعف كلٌّ من الموت والهجرة أحدهما الآخر، وبالنظر للوعد بالعودة، حتى مع الثقة بالعودة، فما المخاوف الوجودية التى يجعلها تذكُّرُ الموت تعشِّش فى خاطر المهاجر وأسرته؟».

أما المحور الأخير وهو «اللغة: سيم سيم صديج» فأضاف لمحةً فكاهيةً تنهى النقاش الثقيل، عبر الحديث عن الأنماط اللغوية التى تُمَيّز المهاجرين المصريين إلى الخليج عند عودتهم إلى مصر، وتحديدًا لغة «سيم سيم صديج» التى «لا يبدو أن أحدًا يفهمها سوانا».

وفى نهاية الورشة، دعا القائمون عليها نهى المعداوى، مخرجة «حكايات عادية»، لعرض فيلمها، وهو الفيلم التسجيلى الوحيد حتى الآن الذى تناول تجربة الهجرة المؤقتة إلى الخليج.

وتحدثت «فرح» عن الفيلم، قائلة: «تركتنا بلاغته فى حالة من الشعور بقوة وقْعِه، ووجدنا فى تعقيده وطبقاته المختلفة تجليًا لما ناقشناه فى جلساتنا، وظهرت الأفكار هنا عبر قصص حقيقية لمصريين أثَّرت فيهم الهجرة بعمق وتنوع».

وأضافت أنه «خلال مرحلة إنتاج الأعمال الفنية، انضمَّت لنا المنسِّقة فريدة يوسف، ودعم توجُّهها الفلسفى الفنى أفكار المشاركين، وكان أحد أسباب تمكُّننا من تحقيق المعرض، ما يؤكِّد أن هذا المشروع التشاركى هو ثمرة تعاون الجميع، وهذا هو ما صنع المعرض، وجعل الفعاليات الموازية المطروحة للجمهور ممكنةً».

وواصلت: «هذا المشروع تشارُكى، أسهم فيه الجميع، وتفاعل معه الجمهور وشاركونا حكاياتهم وتجاربهم وأرشيفهم، ويعد محاولة للاشتباك بشكل إبداعى مع أسئلة أنثروبولوجية، وإنتاج معرفة متاحة تدعو الناس للتساؤل والشعور»، كاشفة عن أنه «تم تموّيل هذا المشروع ذاتيًّا، وتمكنا فقط من تحقيقه من خلال كرم ودعم جميع المشاركين والمساهمين، وكان هذا مؤثرًا جدًا بالنسبة لى شخصيًا».

وكان لـ«الدستور» لقاء آخر مع فريدة يوسف، التى قالت إن «المعرض يدور حول زمانية الوجود فى الخليج وليس المعيشة فقط، نتطرق إلى التجربة بكونها مؤقتة، وعن الخلل الذى يجعل الحياة فيها تبدو مُعَلّقة ومضطربة اضطرابًا زمانيًا يخلق بالضرورة تفكيكًا مكانيًا، الأمر الذى يجعل الوجود فى حد ذاته ذا صفة مُعارة».

وأضافت أن المعرض يضم تركيبًا من الأعمال الفنية لـ١٥ فنانًا يتساءلون عن كينونة الحياة فى الخليج، وبالنسبة للكثيرين منهم، تلعب الذاكرة دورًا كبيرًا فى طرحهم لأعمالهم، ومن خلال استخدامهم وسائط مختلطة، تضيف أعمالهم الفنية تعقيدًا إلى تلك الذكريات، فى كثير من الأحيان، ينبشون ما مزقته الزمانية أو الوجود المؤقت، وهنا تظهر اختياراتهم فى الشكل شكوكًا حول الحنين إلى الماضى، وحتمًا نجد أنفسنا نتأمل فى تجربة الإعارة.

وأوضحت أن «المعرض يبدأ بفهم الطفل لزمانيته فى أثناء تجربة الهجرة وينتهى بالعودة إلى مصر، ومع كل غرفة من غرف المعرض، ينمو فهمهم لوجودهم فى الخليج كمهاجرين مؤقتين».

واختتمت بأن «هذا التصميم يهدف إلى مواءمة تلك التجربة الشخصية مع مسار المتفرج عبر المعرض، تشاركًا فى زمانيتهم الخاصة، ليصبح وجود المتفرج فى تلك المساحة أيضًا: مُعارًا خرج والمفروض أن يعود».