رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في ذكرى شوقي وشوشة.. يبقى الشعر ديوان العرب

في معلقته نظم عنترة بن شداد شطرًا شهيرًا من الشعر يقول: "هل غادر الشعراء من متردّم؟" أي لم يترك الشعراء شيئًا يقال فيه شعر إلا وقد صاغ الشعراء فيه، بمعنى إنه لم يترك الأول للآخر شيئًا، فقد سبقني من الشعراء قوم لم يتركوا لي مسترقعًا أرقعه ومستصلحًا أصلحه.
وفي تفسير الأكاديمي الجزائري الشهير د. عبد الملك مرتاض للبيت يقول: "إن عنترة بهذا البيت كان يعد نفسه محدثًا قد أدرك الشعر بعد أن فرغ الناس منه و لم يتركوا له شيئًا".
ورغم قول بن شداد هذا الشطر منذ أكثر من 1470 عامًا، إلا أنه قاله وقال غيره، ثم نظم بعده شعراء لا حصر لهم، فبقى الشعر هو ترجمان الإبداع الأول عربيًا، وعلى الرغم من منافسة الرواية حاليًا وتسليمنا بأننا نحيا زمن الرواية، إلا أن للشعر - ما يزال - في قلوبنا المكان والمكانة الأبرز وكما يقول أبو فراس الحمداني: "الشِعرُ ديوانُ العَرَب أبدًا وعنوان الأدب".
وكشأن كل شيء، كانت هناك نهضة شعرية شهدتها عصور مختلفة من تاريخ العرب، وكذلك شهدت الحركة الشعرية أفولًا وتراجعًا على فترات لم يمنع أن تخللتها طفرات وأسماء لعمالقة أحيوا فن الشعر وحافظوا بعظيم منجزهم على استمرار حبل الإبداع في الأمة.
وقبل تسعين عامًا رحل الرجل الذي توجه شعراء جيله أميرًا للشعراء، ففي مثل هذا اليوم من عام 1932 توفي أحمد شوقي عن عمر ناهز أربعة وستين عامًا. ولكنه ظل هو الشاعر الذي أعاد للكلمة رونقها وصاغ بالفصحى بعضًا من أجمل أبياتها، والمدهش هو أن شوقي كان من أصول بعضها عربي وبعضها غير عربي، لكن شعراء عصره من العرب اجتمعوا وأجمعوا على تتويجه أميرًا عليهم بعد أن بلغ منتجه الشعري ما يتجاوز ثلاثة وعشرين ألفًا وخمسمائة بيت، وهو ما لم يبلغه شاعر عربي قديم أو حديث فضلاً على القيمة الكبرى لمنجزه وتعدد أغراض شعره.
ففي حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وقبيل رحيله بنحو خمسة أعوام بايع الشعراء من مصر والدول العربية أحمد شوقي أميرًا لهم، وكان سعد باشا زغلول رئيسًا للجنة التكريم وتم تتويجه في احتفالية شهدت قصائد نظمها خصيصًا شبلي الملّاط شاعر الأرز، وخليل مطران شاعر القطرين وحافظ إبراهيم شاعر النيل الذي ألقى قصيدة جاء في مطلعها: أمير القوافي قد أتيت مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي.
وظل شوقي يحمل اللقب إلى يومنا هذا حتى بعد رحيله في مثل هذا اليوم قبل تسعين عامًا كاملة.
وفي مثل هذا اليوم أيضًا من عام 2016 توفي الشاعر الكبير فاروق شوشة عن عمر ناهز الثمانين عامًا قضى معظمها بين نظم الشعر والترويج له ولمبدعيه - بحكم عمله الإعلامي في الإذاعة وفي التليفزيون أيضًا - وملقيًا الضوء على أجمل ما نظمه العرب في كتبه ومقالاته المطبوعة أو من خلال برامجه المرئية والمسموعة أو عبر مشاركاته الحية في الأمسيات والمؤتمرات الشعرية.
وبين تاريخ رحيل الأمير شوقي ورحيل شوشة جرت مياه كثيرة في بحر الإبداع وتغيرت مدارس الشعر بخصائصها ورموزها وكان لكل منها نجومًا ومريدين. وعلى الرغم مما قد يظنه البعض من تراجع الحركة الشعرية العربية إلا أن المتابع الجيد للمنجز الشعري المطروح لا يمكنه أن يسلم بهذا الإدعاء.
فقد كان لمسابقات ظهرت في شكل برامج تليفزيونية كمسابقة "أمير الشعراء" دور مقدر في إحياء الاهتمام بالشعر وتقدير الشعراء، كما كان للقيمة الكبرى لجوائز المسابقة والتي جاوزت المليوني درهم إماراتي، علاوة على الشكل التنافسي المحفز الذي أخرج به العبقري المصري محمد عاطف عبدالعزيز شكل الحلقات المتلفزة ما جذب اهتمام المتابعين من المواهب الشعرية ومتذوقيه.
ورغم ظن البعض وادعاء البعض الآخر أن الشعر لم يعد له من المريدين في مصر كالذي كان قبل نصف قرن مضى إلا أن احتلال شعراء مصريين بقيمة هشام الجخ، أحمد بخيت، عصام خليفة، حسن عامر لمراكز متقدمة في دورات متتالية من المسابقة، وحصد الشاعر والأكاديمي المتميز د. علاء جانب للقب الأمير في الموسم الخامس ما يدل على أن المدرسة المصرية في الشعر ما تزال بخير وأن لها نجومًا يستحقون من إعلامنا مزيدًا من الاهتمام والترويج.
على أن يكون ذلك بلغة خطاب وأفكار برامجية تناسب العصر وتسعى لترويج سلعة غالية لا يعرف قيمتها ولا يقدر فائدتها إلا أهل الرقي وأصحاب القيم.
ويبقى وجود أسماء شعرية متميزة أمثال: د. سيد العيسوي، د. حازم مبروك عطية، علي عمران، محمود موسى، سامح محجوب، أحمد السرساوي ومحمد شلبي أمرًا مبشرًا باستمرار مدرسة مصرية شديدة النضج والتألق في عالم الشعر الراقي الفصيح.
مدرسة ستظل تفتح أبوابها لمبدعين جدد يحفظون لمصر مكانتها المتميزة بين شقيقاتها العربيات هذا في مجال شعر الفصحى وبالطبع لا يتسع المقام ولا مساحة المقال لمجرد ذكر أسماء رموز شعرية كثيرة وكبيرة أثرت في وجداننا لعقود طويلة، كما أننا لم نتطرق في حديثنا لشعراء العامية المصرية من العباقرة المبدعين قديمًا وحديثًا والذين قد يتاح لنا الكتابة عن بعضهم لاحقًا.