رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البكاء على الماضى «الجميل»

لا أعرف هل هذه خاصية لدى المصريين فقط أم تشاركهم فيها شعوب أخرى؟ لكننى أدرك أن ظاهرة «البكاء على الماضى» هى نتيجة مباشرة لعدم الثقة فى النفس سواء على المستوى الشخصى أو على المستوى القومى، كما أنها مرتبطة بعدم قراءة التاريخ بشكل دقيق والاكتفاء بالعناوين العريضة والمخادعة التى يروجها أصحاب المصلحة فى هز الحاضر باستخدام سلاح الماضى.. وهم فى هذا يستخدمون سلاحًا يقوم على جهل الناس بالتاريخ الحقيقى وسهولة التأثير العاطفى عليهم.. وهى ظاهرة تاريخية فى مصر رصدها أمير الشعراء أحمد شوقى ودفعته لأن يخاطب الشعب قائلًا: أثّر البهتان فيه وانطلى الزور عليه، يا له من ببغاء عقله فى أذنيه!! ولا شك أن شوقى كان يصف بعض الشرائح التى احتك بها فى بداية القرن الماضى وموقفها إزاء بعض القضايا التى كانت تستجيب فيها للدعاية السوداء التى كانت تبثها بعض الصحف تجاه القضايا الوطنية ورجال السياسة فى مصر.. والحقيقة أنه ما أشبه اليوم بالبارحة.. فالناس دائمًا فى حالة حنين كاذب إلى الماضى وهناك مقولة شهيرة تقول إن «كل ماض هو جميل» فأنت على المستوى الشخصى تحن إلى طفولتك وتتذكر الأوقات السعيدة فيها، رغم أن الواقع يقول إن الطفولة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، ويقول أيضًا إن كل أوقاتك لم تكن سعيدة، وإنك غالبًا تعرضت مثل معظم الأطفال لأشكال من التنمر أو العقاب أو الحرمان.. لكن ذاكرتك تسقط هذا وتتوقف عند المشاهد السعيدة فقط أو عند المميزات دون العيوب.. شىء من هذا يفكر فيه تيار من المسلمين فى مصر وفى غيرها حين يدفعهم الجهل بالتاريخ إلى استدعاء عناوين عن الإمبراطورية الإسلامية أو زمن المجد التليد، ليبقوا فى حالة حنين دائم إلى الماضى، وبكاء مستمر على ما ضاع، وكراهية للواقع، وجلد للذات، فى حين أن زيارة واحدة لكتب التاريخ كفيلة باكتشاف زيف هذا الماضى كله، فالمسلمون وقتها كانوا بشرًا مثل أى بشر، انتصروا لأسباب دنيوية كما انهزموا لأسباب دنيوية، وكان تاريخهم مليئًا بالصراعات الدامية والقتل والتمثيل بالجثث والمخالفات الدينية والأخلاقية التى يرتكبها الحكام، فضلًا عن أن كل مكتسبات الإمبراطورية كانت حكرًا على من يحكم والدوائر الضيقة حوله بينما يتضور الناس العاديون من الجوع وتجبى منهم الضرائب باعتبارهم من شعوب البلاد المفتوحة.. إن هذه القضية الحساسة لا تهمنى فى ذاتها ولكنى أضرب بها مثلًا على حالة الحنين الكاذب إلى الماضى.. أذكر أن السنوات الخمس الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق مبارك شهدت عرض مسلسل «فاروق» لتنتاب الناس حالة من الحنين لحكم فاروق ويقارنوا ما يرونه على الشاشة بما يرونه فى عصر مبارك فيحقدوا على واقعهم وتملأهم الرغبة فى هدمه وتدميره وهو ما فعلوه فى يناير ليفاجأوا أنهم سقطوا فى يد الإخوان ولم يعودوا إلى عصر فاروق الذى يرتدى «الردنجوت» وأذكر أن نظام مبارك اهتز من الحالة التى أحدثها المسلسل، وكتبت موضوعات صحفية تفند أكذوبة تميز عصر فاروق وأنتجت برامج لهذا الغرض.. والحقيقة أن فاروق ملك فاسد أرعن أنهى حكم أسرة من أهم الأسر التى حكمت مصر، والحقيقة أنه إرهابى وبلطجى قتل معارضيه ودبر حادثتين لاغتيال النحاس باشا وكان تافهًا جاهلًا فاشلًا يستحق ضرب الحذاء لا الخلع من منصبه فقط.. ولكنه عدم الوعى والحنين الكاذب والجاهل إلى الماضى بدلًا من التقدم نحو المستقبل.. شىء من هذا الخبل يتم ترويجه الآن عبر لجان إلكترونية مدفوعة ومدفوع لها عن عصر مبارك.. والحقيقة التى أقولها على مسئوليتى الشخصية أنه عصر انحطاط غير مسبوق وعصر فساد مقنن وأن حاكمًا من حكام مصر لم يهدر فرصًا للنهضة كما فعل مبارك، وأنه تولى الحكم فى ظرف تاريخى جعل كل الأطراف معه والكل فى الخارج والداخل يتمنى له التوفيق والنجاح.. لكنه لم يفعل شيئًا سوى السير فى المحل ثم التقهقر للوراء بحكم السن حتى وصل إلى مرحلة التحلل واللا شىء. أما مقارنة الأسعار حاليًا بالأسعار فى عهده فهو نفس ما كان يفعله الناس فى زمن جمال عبدالناصر مثلًا حين يقارنون الأسعار بزمن الملك فؤاد، وهو نفس ما كان يفعله الناس فى زمن السادات حين يقارنون الأسعار بزمن عبدالناصر بل إنهم تظاهروا فى يناير ٧٧ لأن كيلو اللحم أصبح سعره جنيهًا واحدًا ورأوا أن هذا مبرر لإسقاط الدولة، وهو نفس ما فعله الناس فى زمن مبارك حين تحسروا على الأسعار فى زمن السادات! ثم فعلوه بعد زمن مبارك وتحسروا على الأسعار فى زمن مبارك.. والحقيقة أنه آن الأوان أن نواجه مشاكلنا بشجاعة.. فتضخم الأسعار وتراجع الاقتصاد مرتبط بعدم الإنتاج وبالزيادة السكانية غير المخططة وبعدم إتقان معظم سكان البلد لحرف ومهن تضيف للاقتصاد القومى ولشيوع ثقافة التخلف والاستهلاك والتفكير الخرافى وكراهية العمل.. وهذه كلها قيم استشرت وتحولت إلى حقيقة مؤكدة فى زمن الرئيس مبارك رحمه الله وغفر له.. والمعنى عندى أن مبارك وزمنه وممارساته هو المشكلة وليس الحل. فأفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله.