رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالناصر كما رآه هيكل

جمال عبدالناصر
جمال عبدالناصر

CIA حاولت اغتياله 3 مرات وفشلت.. وجعل برج القاهرة رمزًا لسخافة السياسة الأمريكية

ألزم نفسه بما يدعو إليه.. ورأى أنه لن يعيش كثيرًا.. وأعظم متعه مشاهدة السينما

رفض إعدام الملك فاروق.. والاعتقالات فى عهده سببها صراعه مع القوى الرجعية

تمر علينا ذكرى رحيل رئيس مصر الأسبق جمال عبدالناصر، ربما لتذكرنا بتجربته، وكثيرًا ما يكون الحديث عن ناصر حديثًا مثيرًا للجدل؛ بالرغم من مرور كل هذه السنوات على رحيله، وعلى خروج الجنازة الأعظم فى التاريخ، فلا أظن أن هناك جنازة كانت لرئيس دولة من الدول أو لزعيم مثل جنازة عبدالناصر، التى تجاوز عدد المشاركين فيها حدود بيته بمنشية البكرى، أو حتى حدود القاهرة.

فهناك أحد الأشخاص الذين أعرفهم بشكل شخصى، والذين عاصروا هذا اليوم العصيب، قال إنه وبالرغم من كل التجارب التى مر بها فى حياته وهو الذى تخطى الثمانين بقليل، إلا أنه وفى كل عام حين تمر ذكرى وفاة عبدالناصر يقتحم عقله هذا المشهد المزلزل، حيث كان عائدًا للإجازة فى بلدته طهطا بمحافظة سوهاج فى الصعيد، وحين وصل رأى أمه ونساء البلدة يلطمن وجوههن، والرجال الذين يمكن للطيور الجارحة أن تقف على شواربهم يبكون فى حزن وصمت، ويخرجون فى جنازة لا ميت فيها، وحين سأل عما جرى قالوا له إن عبدالناصر قد مات.

لا شك أن كل هذا، سواء المحبة الجارفة التى تتجاوز محبة شعب لقائده، أو حتى الكراهية التى تجعل سيرة ناصر مثيرة للجدل، والتى دفعت كاتب الكتاب الذى سنتحدث عنه أن يوجه كتابه للدفاع عن هذا الهجوم، تجعلنا بحاجة لتأمل تلك الحقبة ودراستها، للاستفادة من نقاطها المضيئة فى حاضرنا ولعدم تكرار أخطائها.

ولا شك أن واحدًا من أصدق الذين كتبوا وأرخوا لتلك الفترة الحساسة فى تاريخ مصر، هو الأستاذ والكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل، الذى قام فى كتابه «لمصر لا لعبدالناصر» الصادر عن دار الشروق، بتحليل وسرد وعرض التجربة الناصرية من بدايتها حتى نهايتها بكل أمانة وموضوعية. 

وكان جزء من الدافع الذى جعل هيكل يقوم بتأليف كتابه، الذى أعتبره رواية مختصرة لمشاهد رآها بعينه، هو دفع التهم التى تنهال على سيرة عبدالناصر وعلى تجربته لتشويهها والنيل منها، والتى «كان واضحًا أن الحملة تستهدف مبادئ معينة، وقيمًا معينة، ولحظات معينة فى تاريخ مصر وأمتها العربية.. وكان واضحًا أن هذا يجرى لحساب قوى وأطراف».

ويكمل هيكل فى مقدمة كتابه: «إن تجربة ٢٣ يوليو بالطبع ليست فوق النقد والحساب، ثم إننى أنا الذى كتبت يوم الأربعين بعد وفاة جمال عبدالناصر، مقالًا عنوانه (عبدالناصر ليس أسطورة)، أى أننى لا أؤمن بالقداسات للبشر، وإنما أؤمن بإنسانية البشر، وأول مقتضياتها أن كل التجارب قابلة للنقد».

بينما فى الفصل الأول من الكتاب يؤكد هيكل أن حملات الهجوم التى بدأت على ناصر وثورة يوليو منذ وفاته، تقف وراءها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ولم يكن ذلك تخمينًا من هيكل أو رجمًا بالغيب، بل استنادًا إلى حقائق مؤكدة، فقد نجحت هذه الوكالة فى تلك الفترة فى اغتيال أكثر من زعيم ورئيس، مثل أليندى فى شيلى، وحاولت اغتيال آخرين ولم تنجح، ومنهم كاسترو فى كوبا ومكاريوس فى قبرص، وعملت على تشويه سيرة آخرين، أبرزهم غاندى و«لاى» فى الهند والصين.

هذا بالإضافة إلى ما أكده جون ماركس، أحد مؤلفى كتاب «عبادة المخابرات» أن وكالة المخابرات الأمريكية المركزية حاولت، ولثلاث مرات، فى أواخر الخمسينيات اغتيال جمال عبدالناصر ولكنها فشلت.

فى الفصل الثانى من الكتاب يتحدث هيكل عن مجموعة القيم الاجتماعية عند جمال عبدالناصر، فيقول إن عبدالناصر لم يكن حاقدًا على الأغنياء، كما يظن البعض، ولكنه كان يرى أن الغنى الفاحش فى وسط الفقر المدقع جريمة لا تغتفر، وهكذا عمل على تذويب الفوارق بين الطبقات.

لم يدعُ ناصر إلى قيم ليتحلى هو بغيرها، بل كان يقول ما يؤمن به، فنرى أنه ألزم نفسه بصرامة ألا يملك أرضًا أو عقارًا «وكان رأيه أن الحاكم فى مصر لا يجوز له أن يمتلك لأنه بذلك يفقد قدرته على التعبير عن مصالح الأغلبية ويجد نفسه مهما حسنت نواياه يعبر عن مصالح الأقلية».

يتحدث هيكل عن الطعام المفضل لناصر، قائلًا: «وكان أفخر الطعام عنده على حد تعبيره (لحمًا وأرزًا وخضارًا) وماذا يأكل الناس غير ذلك؟».

وكانت متعته تتمثل فى الجلوس إلى مكتبه لسماع أغنية لأم كلثوم بينما هو يعمل، «وكانت لمسة الترف فى ليلة ذهابه إلى قاعة السينما فى بيته يشاهد فيلمًا أو فيلمين قبل أن يأوى إلى فراشه».

فرض عبدالناصر على نفسه نظامًا خاصًا، فهو لا يخرج ولا يخالط الكثيرين لأنه كان يرى أن مخالطته لمن يجب أن يجلسوا مع رئيس الجمهورية قد تغير أفكاره ونظامه.

وكان يرى أنه لن يعيش كثيرًا على هذه الأرض، ويقول هيكل إن ناصر تنبأ بذلك حين قال له فى أحد لقاءاتهما: «لا أظن أن العمر سيصل بى إلى مرحلة الشيخوخة.. لنكن عمليين، الذى يعيش نوع الحياة التى أعيشها ليس له أن ينتظر الشيخوخة وإلا كان يخرف».

وعندما رحل عن عالمنا وهو فى الثانية والخمسين من عمره، كان كل ما تركه «قرابة أربعة آلاف جنيه، ألف وخمسمائة منها قيمة بوليصة تأمين على حياته عقدها قبل ذهابه إلى حرب فلسطين، ثم حساب فى بنك مصر باسمه شخصيًا كان رصيده حوالى ألفين وأربعمائة جنيه، وفى مقابل ذلك كان مدينًا بحوالى ستة وعشرين ألف جنيه بقيت عليه من تكاليف بناء بيتين.. لكل واحدة من بناته تسكن فيه عند زواجها».

وحين حاول الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور أن يجعل النظام المصرى يسير وفق السياسة الأمريكية، «فوضع تحت تصرف سلطة الدولة العليا فى مصر ثلاثة ملايين دولار لكى تُصرف سرًا فى أى وجه تراه هذه السلطة ضروريًا لأمنها، وأحدث تقديم هذا المبلغ لسلطة الدولة فى مصر وقتها دهشة واكتنفته ظروف مثيرة، ثم تقرر توجيه المبلغ إلى بناء برج القاهرة وشبكة مواصلات.. وأصبح برج القاهرة بعد هذه القصة رمزًا عاليًا لسخافة السياسات الخفية للولايات المتحدة الأمريكية».

وحين أصبح ناصر رئيسًا للجمهورية، رسميًا، فى يونيو ١٩٥٦، اصطدم أول ما اصطدم بحرب مع ثلاث دول، منها اثنتان من الدول العظمى وهما بريطانيا وفرنسا، ورغم التباين العسكرى وفرق الإمكانات المهول، إلا أنه استطاع الانتصار عليها فى معركة سياسية استطاع من خلالها الوصول لهدفه «قناة السويس تحت السيطرة المصرية، والانسحاب البريطانى الفرنسى من بورسعيد كاملًا، والانسحاب الإسرائيلى من سيناء كلها ومن قطاع غزة».

فى سياق مختلف يتحدث الأستاذ هيكل عن بعض التفاصيل التى جعلت نظام عبدالناصر يعتقل كثيرًا من الأشخاص فى بعض الفترات، يقول هيكل إن عبدالناصر كان على علم بأغلب ما يجرى، وإنه كان يظن أن كل من يتم القبض عليه كان لا بد وأن يكون هناك شك فى سلوكه أو تقارير تؤكد وتثبت عليه التهم، ففى الوقت الحساس الذى كانت تعيشه مصر آنذاك على مستوى الصراع السياسى الدولى والعالمى، كان هناك صراع آخر مع بعض الأحزاب والقوى الرجعية المتخلفة المتمثلة فى الإخوان وبعض التيارات، وكان أحد هذه التنظيمات يخطط لنسف وتدمير المنشآت العامة والطرق والكبارى والجسور والقيام بعمليات اغتيال.

هذه الشهادة التى يقولها هيكل يؤكدها الكاتب الكبير جمال الغيطانى فى أحد لقاءاته الإعلامية حين سئل عن نظرته للحريات فى عهد ناصر، فأجاب فيما معناه بأن وجود الإخوان كان عائقًا لتحقيق هذه الحرية.

هذا بالرغم من أن الغيطانى واحد من هؤلاء الذين تم القبض عليهم فى تلك الفترة، ولكنه كغيره من الشعراء والأدباء الذين لم يمنعهم السجن من قول الحق أو قلل من حبهم لناصر.

وبالرغم من كل شىء، فقد كان ناصر يحترم القانون للغاية، فبالإضافة للواقعة الشهيرة التى تقول إنه رفض إعدام الملك فاروق بعد خلعه لأنه كان يرى أن المحاكمة ستكون شكلية ولا حاجة لها، فطالما قرر أعضاء مجلس الثورة إعدام الملك فما الحاجة إلى محاكمة؟ وكان ناصر يرى أن هذه البداية لا تصلح لثورة تريد الخير، فالدم لا يأتى إلا بدم.

وقد رفض ناصر طلب الملك سعود فى حصول ملكة مصر السابقة ناريمان على طلاق من زوجها الدكتور أدهم النقيب، وقال «إننى أريد أن أجامل الرجل فى أى شىء يطلبه منى.. ولكنه قصدنى حيث لا أستطيع أن أجيب طلبه». 

هذا عن رفضه التدخل فى قضية طلاق، وهى بكل تأكيد قضية هينة بجانب القضايا الأخرى.

يواصل هيكل فى كتابه الحديث عن ناصر وفترة حكمه؛ ليتحدث عن الوضع الاقتصادى لمصر فى فترة عبدالناصر، ليقول إن كل المشاريع التى قام بها عبدالناصر كانت مشاريع سبق وأن تمت دراستها فى العهد الملكى، ولكنها لم تدخل حيز التنفيذ، وإنه استعان بخبراء اقتصاديين كانوا قريبين من المناصب المؤثرة فى العهد السابق للثورة حتى تستفاد الدولة بخبرتهم الواسعة، كما استعان ببيت «آرثر دى ليتل» وهو بيت خبرة أمريكى متخصص فى عمل الدراسات الاقتصادية للدول لمعرفة إمكاناتها وكيف يمكن التخطيط لها. 

وأدى كل ذلك لإقامة العديد من المصانع بلغ عددها أكثر من ٧٠٠ مصنع، بالإضافة إلى المصانع التى تم تأميمها، وكان أبرز هذه المصانع مصنع حديد حلوان، ومصنع السماد فى أسوان، وكهربة خزان أسوان، وغيرها من المصانع.

والحقيقة أن حرب ٥٦ فى جزء منها كانت ردًا على كل ما يجرى فى مصر من تنمية، فلا ننسى أن الحرب جاءت بعد قرار تأميم القناة، وقد كان هذا القرار هو رد عبدالناصر على سحب المساهمة الأمريكية البريطانية فى بناء السد العالى، وعن تراجع البنك الدولى عن تمويل مشروع السد الذى كان نقطة مهمة فى طريق التنمية، الذى وصل بمصر فى عام ١٩٦٥ لتحقيق أعلى معدل نمو لها، حيث وصل معدل النمو إلى ٦.٦٪ دون مساعدات خارجية، حسب تقرير البنك الدولى رقم ٨٧٠، وهى نسبة كانت لا تتحقق سوى فى عدد قليل من بلدان العالم، أبرزها اليابان وألمانيا الغربية ومجموعة الدول الشيوعية.

وكانت نسبة التضخم فى مصر حتى عام ١٩٧٠ أى عام وفاة عبدالناصر هى ٥٪ سنويًا، أما فى عام ١٩٧٥ أى بعد وفاته بخمس سنوات، فقد ارتفع هذا المعدل ليكون بين ٢٠٪ و٢٥٪.

وكان القطاع العام حتى سنة ١٩٧٥ مؤثرًا فى ميزانية الدولة، فقد أسهم القطاع العام حينها بأكثر من ٨٠٠ مليون جنيه على شكل أرباح وضرائب ورسوم مباشرة، فى حين أن القطاع الخاص أسهم بأقل من ٣٠ مليون جنيه.

هذا الاقتصاد القوى جعل الدولة تتماسك بعد النكسة التى لخص هيكل أسبابها فى نقطتين، النقطة الأولى «الخطأ فى حسابات عملية إغلاق خليج العقبة»، والنقطة الثانية «الخطأ فى ترك المشير عامر يقود المعركة فعلًا، بينما هو لا يصلح لقيادتها».

وبعد الهزيمة أراد ناصر وحده أن يتحمل المسئولية كاملة، فبعد أن كتب هيكل خطاب التنحى فى ليلة لم ينم فيها، وكانت ليلة شديدة التوتر لم يمر بمثلها، وذهب به إلى عبدالناصر، وبينما عبدالناصر يقرأ الخطاب استوقفته فقرة تقول «وفيما يتعلق بى فإننى على استعداد لتحمل نصيبى من المسئولية».

فيقول ناصر لهيكل:

«ما معنى أن أقول إننى على استعداد لتحمل نصيبى من المسئولية.. لا أرضى ذلك لنفسى.. إننى تاريخيًا أتحمل المسئولية كلها ويجب أن أقول ذلك للناس». وبالفعل تم تغيير الجملة.

وقبل وقوع الحرب حاول ناصر قبول كل الوساطات الأمريكية لتهدئة التوترات، لكنه سيكتشف متأخرًا أن هذه الوساطات كانت شكلية، وأنها لم تؤثر فى إبعاد الحرب عنه كما أراد، بل إن الولايات المتحدة ساعدت إسرائيل بأكثر مما يتخيل الجميع لتكون نتائج المعركة كما كانت، ولتسير الأمور كما خطط لها.

وكان هيكل شديد الإلحاح على نقطتين وجدهما أساسًا للخروج من مأزق النكسة:

«أولاهما ضرورة العمل على تحييد أمريكا باستعمال وسائل الضغط المتاحة للعرب استراتيجيًا. والنقطة الثانية هى الحتمية التى لا مفر منها لمعركة عسكرية محدودة، يمكن استغلالها لتحقيق نتائج سياسية غير محدودة».

وحين قامت حرب أكتوبر بعد سنوات تمت فيها إعادة ترتيب الجيش، وبعد سنوات من حرب الاستنزاف التى سببت للعدو خسائر كبيرة، كان رأى هيكل أن انتصار أكتوبر كان يجب أن يستغل سياسيًا بأكثر من ذلك حتى لا تفضى نتائج الحرب إلى شىء من الهوان السياسى أو الاجتماعى.. ويضيف فى هذه النقطة فى مقدمة الكتاب موضحًا:

«وكان تخوفى أنه إذا أفلتت الفرصة أو تسربت من بين أصابعنا، فإن سنوات طويلة من العسر قد تكون فى انتظارنا على الطريق.. فالهوان السياسى لا يرده مال، والهوان الاجتماعى لا يعالجه غنى».

ويضيف هيكل فى الصفحات الأخيرة من كتابه:

«وأتذكر أديب فرنسا الكبير أندريه مالرو، وهو يعقد مقارنة بين نابليون وعبدالناصر، ونحن معًا ذات يوم على مائدة غداء فى مطعم لاسير بباريس، وقال لى مالرو: ليست المسألة هى النصر العسكرى أو الهزيمة العسكرية.. المسألة هى إرادة الأمة وتقديرها للبطل حين تجد نفسها فيه.. ولقد وجدت أمتكم نفسها فى عبدالناصر بمقدار ما وجدت أمتنا نفسها فى نابليون مع اختلاف الظروف، وهذا هو الذى يبقى وغيره تكنسه الأيام».